ادة ما أرفض الإجابة على كل من يراسلني عبر الهاتف او وسائل الاتصال، مستعملا النقحرة... ولن ألتمس عذرا... لكن ها إنني أشرح لهم ما يبرّر موقفي هذا.. وللتذكير مثلت سنة 2000، السنة المحورية التي أقرت فيها منظمة الصحة العالمية بأن يتمّ تعريب العلوم والطب خاصة في كامل أرجاء الوطن العربي.. لكن إذا استثنينا السودان الذي خطا خطوات جدية في طريق تعريب الطب، فنحن لم نشهد أي تغيير في باقي البلدان.. كأنّ أمر حياة اللغة العربية لا يهمّ مواطني بلداننا ولا يهمّ ساستنا كما لا يهمهم أمر موتها. وتوجد عدة عوامل تؤدي إلى موت اللغات ومن بينها أن المواطن العربي أصبح غير مهتم بهذه اللغة ولا هو يملك قبسا من منطق أو حنين لهذا المكسب. وينفر من انتسابها إليه بل ومن انتسابه إليها... وصمة عار تمثّل له.. ولعلّه يخلط بين استعمالها والانتساب إليها وبين التطرّف الديني!! كما يمكن أن تموت اللغة تدريجيا والعملية الأشيع التي تؤدي إلى موت اللغة هي أن يبدأ شعب باستعمال لغة أخرى بجانب لغته الأم، فيصبح الشعب ثنائي اللغة. ويبدأ بالتحول تدريجياً إلى الاهتمام باللغة الأخرى والولاء لها والتأثر بثقافتها، ظنا منه أن اكتساب اللغة الثانية من باب التفتّح يغنيه عن استعمال اللغة الأم، وصولاً إلى درجة استعمالها أكثر من لغتهم الأصلية. وقد تموت اللغة كذلك تدريجياً من أسفل إلى أعلى أي عندما تبدأ اللغة تتغير في مكان ما، وتنحطّ بين مستعمليها وصولاً إلى انحطاطها في الهيئات الرسمية والدولة والبرلمان وعلى لسان المسؤولين وخاصة خارج البلاد. كأنّما يفخرون بامتلاكهم لغة الآخر... ناسين أنّهم يمثلون الدولة التي عينتهم في كذا منصب ومسؤولية. وقد تموت من أعلى إلى أسفل: عندما تبدأ اللغة في الانحطاط بسبب السياسات اللغوية بفرض من القانون. ومثال ذلك أن يمنع هذا القانون استخدام اللغة بصورة رسمية. كاللغات الجهوية وهو ما قمت به فرنسا بالنسبة للبريطانية والكرسيكية وغيرها تعزيزا للغة الفرنسية قبل أن تتراجع في الأمر. الحوار بين اللغات ضرورة حضارية: فاطمة لخضر، هي الأستاذة التونسية التي برهنت على أن اللغة العربية قد أمدّت اللغة الفرنسية بمئات المصطلحات. وذلك في معجم متوسط الحجم باسم: الكلمات العربية في اللغة الفرنسية، أصولها وتحوّلاتها نشره المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة.. هذا المعجم هو بمثابة الحجة على سخاء هذه اللغة العربية وعلى تداخل اللغات. ومحتواه في غاية الدقة والحكمة.. نُذهل عندما نجد هذا الكمّ من المصطلحات الفرنسية ذات الجذور العربية.. ولعل الإسبانية احتوت أكثر مما لحتوته اللغة الفرنسية!! يبدو أن ما يقارب العشرة آلاف كلمة إسبانية هي من اصل عربي. وإذا ما قبلنا فكرة أن اللغة العربية قد أعطت إلى اللغات الأخرى من كنوزها فلماذا نعدل أو نرفض فكرة أن تكون اللغة العربية تأخذ أو هي أخذت من لغات أخرى وخاصة تلك التي جاورتها جغرافيا وتزامنت معها تاريخيا؟ والأمر يتعلّق خاصة باللغات الكنعانية والفينيقية والعبرية والسريانية (الأرامية).. فمن بين قاتلي اللغة العربية بعض الأئمة والمفتيين الرافضين أن يدخل في النصّ الديني لفظ من أصل أرامي أو سرياني أو فارسي أو عبري أو فينيقي.. والحال أنّ الاختصاصيين في اللغات لا يمكنهم إلا ملاحظة بعض الأمور العلمية الدقيقة: أولا: إن اللغة السريانية تملك 22 حرفا واللغة العربية أصلا كانت تحتوي 22 حرفا ثانيا: الشبه الكلي بين الحروف السريانية والأحرف العربية ثالثا: أنه لا يمكن فهم بعض ما نقرأه في النص المقدس إلاّ من خلال قراءة دقيقة والتمكن من بعض الرصيد اللغوي بصورة علمية. وقد كانت اللغة الفينيقية أصلا لكل هذه اللغات ومنها العبرية والعربية، وبقيت شفوية لآلاف السنين.. باختلاف المناطق.. ففي جنوب الجزيرة العربية تطوّرت العربية.. وبالشام تطورت السريانية والعبرية وغيرها.. لكن بقيت أصورة تربط بين كل هذه اللغات ولا ضير في ذلك. وقد ذكر إن ابن حزم الأندلسي العلاقة بين العربية والعبرية والسريانية، فقال: «من تَدَبَّرَ العربية والعبرانية والسريانية، أيقن أن اختلافها، إنما هو من تبديل ألفاظ من الناس على طول الازمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل»
كما كان الخليل بن أحمد قد ذكر في كتابه «العين» العلاقة بين العربية والكنعانية، فقال: «وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع (بمعنى تشابه) العربية». والسؤال هو مع ثراء لغتنا العربية لماذا يلجأ الكثير منا إلى النقحرة لتكون النقحرة سببا من أسباب موت محتوم للغة العربية؟ ومن عادتي رفض النقحرة بصورة قطعية... خاصة وقد علمتم أن اللغة الفينيقية التي انتمت إلينا وانتمينا إليها هي من أمدّ اللاتينية بأحرفها... كما أمدت اللغات الأخرى. لعلّكم فهمتم ما أقصد بالنقحرة... النقحرة هي النقل الحرفي للغة، أي كتابتها بغير أحرفها. وعندنا هو كتابة العربية بالأحرف اللاتينية.. وهو أمر تفشى في هواتفنا وبوسائل الاتصال كالفيسبوك وتويتر والانستغرام وغيرها على شاشة الكمبيوتر... وهو أمر مخجل خاصة بالنسبة للمثقفين والمربين...