لم يكن الرئيس بورقيبة رحمه الله يهتم بالبرامج التي تبث على شاشة التلفزة في أيامه ويقتصر على نشرة أخبار الثامنة مساء فيها ليرى ويقيَّم نشاط الوزراء وكبار المسؤولين في حكومته لما تعذر عليه تبليغ توجيهاته وشرح أرائه وأفكاره له مباشرة، لكنه بالمقابل كان يتابع برامج الإذاعة الوطنية في الصباح والمساء والعصر عند الاقتضاء، كان يتدخل فيها مباشرة في بعض الاحيان تفاعلا. وأتذكر أنا المرات العديدة التي شرفني فيها باتصالاته عبر الهاتف للسؤال عن أمر ما او قضية من القضايا التي كان يسمعها للسؤال أو لإبداء رأيه فيها او إعطاء تعليماته فيها عند الاقتضاء لتسويتها وأخذ ما يتعين فيها. كان يفعل ذلك معي ومع غيري من الولاة بالهاتف مباشرة باعتبارنا ممثليه في الجهات ويعرفنا واحدا واحدا، كما كان يعرب في بعض المرات عن إعجابه وتشجيعه لنا. كانت تلك طبيعته. أما وقد أصبحت الإذاعات على كثرتها أقل استماعا مما كانت عليه سابقا وتقتصر متابعة برامجها في فترة التنقل في السيارات أثناء السفرات الطويلة أو لما يشتد علينا في الطرقات الزحام في المدن. فبات من الضروري التكيف بالزمان. أقول ذلك وأكتب الآن لأني ممن يفعل ذلك يوميا واستمع للإذاعات التي تحسن اختيار برامجها وتهتم بالشأن العام. وأما الإذاعة الثقافية عندنا فقد أصبحت مدمنا على سماعها عادة بعد سهرة المساء قبل النوم وعند القيلولة بعد الغداء وتعودت عليها للراحة والاسترخاء وأنام على أنغامها وحواراتها وأغفل تارة عن قطع الكهرباء، واتصور أن أمثالي وخاصة المهتمين بالشأن الثقافي يفعلون مثلي ذلك، وبذلك أدركت وتفهمت إدمان الرئيس بورقيبة رحمه الله على ذلك ! ومما أريد ذكره بالمناسبة أنني تأسفت كثيرا في نهاية الاسبوع الذي انقضى وهو عدم إدراكي للمحاضرة التي القاها الدكتور طه حسين رحمه الله بصوته الرنان كاملة إذ فتحت الاذاعة الثقافية يومها متأخرا لما كان يتحدث عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وكيف وصف طبعه الشديد وقسوته على نفسه خشيته من الله دائما في إدارته للشأن العام بالرغم من تبشيره بالجنة مسبقا. لم أسمع تلك المحاضرة كاملة من أولها لأخرها وقد بثتها الإذاعة الثقافية وقتها وكنت أتمنى أن تعيدها وتذيع غيرها إن أمكن. وأقول بالمناسبة لمديرها الصديق الحبيب جغام شكرا على اهتمامك بالثقافة وأمهات تراثها وجودة الأغاني القديمة التي تذكرنا بجذورنا وتعيدنا لماضينا الجميل الذي أصبحنا نحن اليه، وأجدد له تأكيدي بأن قلة اهتمام المستمعين بالإذاعات المختصة بالثقافة لن يؤثر عليها لأن والعبرة بالنوعية والمستوى، وأسوق له ما تفعله الدول الراقية بتخصيصها لتلفزات ذات برامج نوعية محببة لنفوس الطبقة المثقفة من ذلك قناة (ARTE ) المشتركة بين فرنسا وألمانيا المستمرة منذ نشأتها وهي تواصل مهمتها العلمية والثقافية وتتصدر القائمة لدى وكالات سبر الآراء المحايدة ، ولولا ذلك لما بقيت الى الآن.