صدق من وصف مقابلة الكلاسيكو بين الفريقين الغريمين برشلونة وريال مدريد ب"كلاسيكو الارض" فهو قمة التشويق وروعة الاثارة وذروة الابداع . كان كل شيء مبهرا حتى حدود الاعجاز أحيانا . التنظيم المحكم والجمهور الغفير وأرضية المبدان التي توحي بخضرة الفراديس . لم تبدأ المقابلة على أرضية الميدان وفي التوقيت المحدد لها بل قبل ذلك بعدة أيام إذ شغلت الناس في جميع مناطق العالم ، واثثت صفحات الجرائد ومساحات البث الاذاعي والتلفزي طيلة الايام الماضية فهي الحدث السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاعلامي بدون منازع . كانت المقابلة بمثابة المشهد الفرجوي بما في الفرجة من جمال وابداع وارتقاء سلوكي ..، آه ما أروع الكرة عندما تكون في هذا المستوى من الابداع. في الجانب الآخر وتحديدا في ملعب الطيب المهيري بصفاقس دار كلاسيكو النقيض بين النادي الصفاقسي والنادي الإفريقي ...كان المشهد مرعبا منذ البداية صراخ وشتم وكلام بذيء فوق المدارج وعنف لا مبرر له فوق الميدان ومع كل قرار يتخذه الحكم ينطلق نقاش حاد وهستيري يشارك فيه اللاعبون والمدربون والمسيرون والطواقم الإدارية والطبية والدخلاء والمتسللون ويتبع كل هذه الشطحات سيل من القوارير سرعان ما يغطي جانبا كبيرا من الملعب فيهرع ملتقطو الكرة إلى إخراجها لتكتمل الصورة الفلكلورية بتدخل الأمن بكثافة لحماية طاقم التحكيم . بين الكلاسيكو الإسباني والكلاسيكو التونسي مسافة طويلة تعد بالسنوات الضوئية هي مسافة تعكس الهوة الساحقة بين دولة مدنية ديمقراطية تفرض النظام عبر مؤسساتها وبين دولة مرتبكة تخلت عن مسؤولياتها وتركت الحبل على الغارب ، وبين شعب متحضر ومسكون بروح المواطنة يبحث عن الإرتواء الحضاري والمعرفي والترفيهي وشعب فوضوي منفلت يبحث عن الشغب وبث الفتنة الجهوية والقبلية بشتى الطرق . هذا الفارق تجلى أيضا في ركح آخر وهو الركح السياسي وذلك بمناسبة إجراء الإنتخابات الرئاسية الفرنسية التي وفرت وقائعها فضاءات راقية جدا للحوار الفكري والسياسي والأخلاقي الثري والبناء والموسوم بروح المواطنة والحرص على صيانة المصلحة العليا في فرنسا في حين تحولت فضاءات الحوار في بلادنا خلال السنوات الأخيرة إلى ما يشبه المزابل حيث اللغة السوقية الهابطة وهستيريا الحقد والكراهية والتشفي وأوحال البذاءة والوضاعة والجدب الفكري والسياسي ونشر الغسيل الوسخ على السطوح الإعلامية العارية والضرب في الظهر وتحت الحزام والعبث بمصالح الوطن وخدمة الأجندات المشبوهة والتذيل العلني للقوى الإقليمية والدولية .إنهما عالمان مختلفان في كل شيء عالم متحصر ومتقدم وعالم متخلف ويسعى إلى الإيغال أكثر في التخلف بل يطمع للعودة إلى عصور خلت . إكتشف أغلب التونسيين هذا الدمار الذي حل بهم فخرجوا يبحثون عن الهواء النقي بمتابعة كلاسيكو إسبانيا بين ريال مدريدوبرشلونة والدور الأول من الإنتخابات الرئاسية الفرنسية بعد أن كانوا قد تابعوا ب0نبهار تشوبه الحسرة الحملات الإنتخابية للمترشحين وما رافقها من حوارات تنير العقول وتهذب الأنفس وتقدم الدروس الرفيعة في معاني المواطنة والوطنية . تساءل بعضهم لماذا أصبح التونسيون يبحثون عن ضالتهم في كل المجالات خارج الحدود وتحديدا في بلدان العالم المتقدم ؟! والجواب يعرفه القاصي والداني وهو الهروب من المستنقع الذي تردوا فيه خلال ست سنوات من الإحباط وخيبة الأمل ومظاهر الفوضى والإنفلات والشغب والمزايدات والتعسف على كل المبادئ والقيم. لا شك أن هذا الهروب يوفر للتونسيين فسحة ل0ستنشاق الهواء النقي بعد تراكم التلوث و0شتداد الإختناق لديهم ولكنها فسحة قصيرة جدا سرعان ما تتبخر نقاوتها بالعودة إلى الواقع الأليم الذي تعيشه بلادنا على جميع المستويات