حين رحل الزعيم جمال عبد الناصر قال عنه رفاق دربه إنه أكبر من الكلمات. إنها جملة تغني عن كل تعبيير. وها نحن اليوم بعد أن غيب الموت مؤسس المدرسة النقدية الحديثة بتونس الأستاذ توفيق بكار وصانع أجيال يعدون بتونس كيف لا وقد سلحهم بأدوات التحليل والنقد والمنهجية في أسرار وبواطن عالم الأدب بأجناسه لا يسعنا إلا أن نقول أنه أكبر من الكلمات. إتصلنا وحين غرة منا بالأستاذ ورئيس قسم اللغة والآداب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية خالد الغريبي وقد وجدناه في حالة ذهول لا يوصف إخل نعي أبيه الروحي على تعبيره بتوازنه الفكري والنفسي هذا الأب الذي علمه حكمة الناقد وحكمة الفنان وأفادنا بما يلي : كتب : خالد الغريبي تزخر الجامعة التونسيّة، منذ تأسيسها بأجيال من الأساتذة جمعوا بين صرامة العلم وطرافة النقد وتميزوا بدقّة استخدام المصطلح ونضارة اللغة وصفاء الأسلوب. ومن بين هؤلاء جيل مؤسّس اضطلع على مرّ السنين بتخريج دفعات من المدرّسين والباحثين أثرَوا المشهد البحثي وحملوا المشعل النقدي في كل مجالات المعرفة الأدبية واللغوية والحضارية. وممّا لا شكّ فيه، فإنّ توفيق بكار يعدّ من طلائع هذا الجيل نقل إلينا العلم بالمناهج ونبّهنا من النسخ والمسخ وصاغ بمراسه ومرانه كتابة نقدية تسمو على كلّ تطبيق حرفي للمنهج لأنّها تستمدّ مقوّماتها من معارفها باللغة والأدب والفكر والنفس البشرية. وتتّصل اتّصالا حميما بجوهر موقفها من النصّ والوجودو العالم والجمال. فمن هذا التعالق الفذّ بين النّظريّ والتطبيقي على مستوى المناهج. ومن هذا النسيج الجدلي بين التأصيل والتحديث على مستوى الروافد.ومن هذا التشكيل العجيب بين الفنون والآداب على مستوى المعارف، صهر بكّار الهامش بالمركز والمارق بالنظام، صانعا من الكامن ممكنا، ومن الحواشي متونا ومن المتلقّي مبدعا، ملتقطا من الجزئيات كلّياتها ومن المتناقضات وحدتها، يسبكها سبكا ويحبكها حبكا في سيرورة تأويلية تحوّل المختلف مؤتلفا : جدلا على جدل، جدل النظر بالإجراء، وجدل الذات ذوّاقة بموضوعها ومعارفها، وجدل النصّ بتاريخه، وجدل المبدع بسياقه. وما يلفت الانتباه في هذه الكتابة أنّ وجوهها متعدّدة وجوهرها واحد، إذ لا ينفصل الناقد العالم عن القارئ الفنّان،و لا ينفصل الفنّان عن الإنسان. بل لعلّنا لا ندرك ما به صار النقد إبداعا إلاّ إذا تفحصّنا ما تعكسه مرآة الفنّان من عميق ظلال على مرآة الناقد، فإذا بينهما تراسل عجيب وتصاد شفيف هو ما به تنخلق وحدة الأضداد. I- توفيق بكّار فنان الحكمة: من الصعب أن تختصر سيرة «بكّار» الجامعي والناقد والفنان والمثقّف والمناضل:هذا الواحد المتعدّد، منذ طفولته، الضارب في أعماق تربتنا تعلّما وتكوّنا وثقافة ونضالا. ولد بتونس العاصمة في زمن الجمر. عاش في حواري المدينة ومجاليها. وتعلّم تعلّما مزدوجا. اغتنى من العربية والفرنسية وتحوّل من فضاء تعليمي إلى آخر:من مدرسة «خير الدين» الابتدائية إلى «الليسي» كارنو إلى الجامعة الفرنسية، حيث درس من سنة 1955إلى سنة 1960، وتحصّل على التبريز. من الحفصية إلى باريس، رحلة ذهاب يتلوها إيّاب إلى البلاد في زمن صعب، يحتّم الانتماء إلى عقيدة بلا تزمّت، لأنّ الكفاح من أجل البلاد والعباد كان من أسمى الغايات وصار بعد ذلك جوهر رسالة مثقّف واع بدوره في تعليم الأجيال. من مدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين إلى كلّية الآداب بتونس إلى الجامعة الفرنسية، سفر لا ينقضي، مغامرة الذهاب والإياب بحرا وجوّا وبرّا، رحيل لا يني يكشف عن أوساع من الدلالة لا تحدّ، تلقاها فيما يكتب الرجل وما به يحدّد كيانه. عرفناه وألفناه جامعيا لا تلين له قناة، متهيّأ للرحيل في النصوص، مغامرا في التجديد بلا صخب، ناشطا ضدّ رياح الجمود والقعود. يرعى من وهبهم «بروميثيوس» سرّه من المشهورين والمغمورين على السواء.حرص على تعليم المناهج بعد أن هضمها وتمثّل سياقاتها حتّى صارت منه إليه «يلاعبها» فتأنس إليه. يضفي عليها من روحه وجنانه ورقيق بيانه ووافر شعريته ما يجعل النصوص تنطق بمكنون أسرارها ومواطن جمالها. كلّ من عرف توفيق بكار من بعيد أو من قريب، من عاضده في الفكر ومن خالفه، لا يمكن إلاّ أن يجلّه.لأنّ بكّار هو من علّم الجميع كيف يمكن أن نقدّس المختلف. علّمنا الاختلاف ونحن نقرأ معه وبه النصوص، قديمها وحديثها، ونحن نعرّش في كلماته، نتسلّق مجازاته، ونحلّق بعيدا خلف أسوار المعاني، نهتك أسرار الغيب بلغة تفيض على سياقها: لغة العلم تنصهر بلغة الفن ولغة الفن تذوب في أقاصي الكيان والكون. وإن كان لي في هذا المقام أن أمزج الشهادة بالموقف العلمي، فليس لي إلاّ ما تجود به الذاكرة: يوم كنّا على المقاعد ننتشي بذهاب بكّار وإيابه. وعليه وقار الحكمة، ماسكا بسيجارته يروح ويذهب مع النصّ مبحرا في بنيته ودلالاته. صوته خافت لكنّه يُسمع، له ترنيمة خفيّة لا تدرك. يحدّثنا عن نصّ «عرس الزين» للطيب صالح أو عن «وشم» عبد الرحمان مجيد الربيعي فلا نلقى منه إلاّ وجيبا كالصدى يأتينا من خلايا النصّ الحيّة. فنحبّ النصّ كما لا يجبّ النصّ أحد. وهو في ما يقول أو يسمع لا يصدح بموقف أو يبين عن رأي إلاّ ما عاضده النصّ مشيرا أو ملمّحا. فإذا تكلّم أحدنا معلّقا او متسائلا أرهف إليه السمع. وأبان عمّا يجوز ولا يجوز بهدوء العالم وأخلاق المربّي وحدس الفنان. ولم يكن بكّار ساعتئذ إلاّ مجيلا بصره بين طلبته. يرقب ردود فعلهم ويستصفي منها ما أُدرك وما لم يُدرك. وبكّار في ما عرفته بعد هذا الطور، مشرفا على بحوثي وصديقا ألوفا - ندعوه إلى موائد العلم في الندوات التي نعقد وفي المجالس التي نقيم - لم يكن إلاّ محاورا فذّا ينشر عبق معارفه ورصين مواقفه بين الجميع.