تفاجأت الساحة السياسية ببيان «حاد» من مجلس شورى حركة النهضة حول الوضع العام في البلاد ومبادرة رئيس الجمهورية حول المصالحة الاقتصادية، تضمن رفضا صريحا للمبادرة في نصها الحالي، كما خلا البيان الذي وقعه عبدالكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى من اي إشارة إيجابية حيث تم التصويت على تضمين ما يفيد رغبة النهضة في المصالحة الشاملة لتخفيف الموقف، ولكن فاز الشق المتصلب وكان له ما أراد باقرار صيغة الرفض وان تُرك الباب مواربا بالتنصيص على إمكانية الموافقة في حال التعديل. هذا هو الموقف الاول الرافض لمبادرة من الباجي قائد السبسي من طرف النهضة وهو شيء لم يحدث حتى في الفترات الصعبة حيث كان مجلس الشورى يفوض للمكتب التنفيذي التفاوض دون سقف او شروط وهو ما كان يثمر التقدم خطوات نحو الامام يراها البعض تنازلات مدروسة جعلت النهضة في وضع سياسي اكثر راحة بعد أزمة 2013 . ويراها البعض الاخر رضوخا مجانيا للباجي قائد السبسي له ما يبرره في السياق الوطني والدولي خاصة وانه يُقابل من الطرف الاخر بتنازلات لا تقل ايلاما، على غرار الحوار مع النهضة في ذروة شيطنتها، وفسح المجال لمشاركتها في حكومة الصيد رغم رفض شق واسع في قيادة النداء وقتها ... ما الذي تغير؟ هل هو شعور الجزء المتصلب من القيادة النهضوية بتجاوز «مرحلة الخطر « وبالتالي العودة لفرض اللون ولو كان الثمن الطلاق مع النداء ومؤسسه؟ هل بلغت التجاذبات الداخلية حدا ينذر بانفجار قريب يفسر فرض «الصقور» عقد دورة تشاورية للشورى وتحويلها الى دورة بالتصويت علما وان الغنوشي كان مسافرا وذهب من المطار الى الشورى مباشرة؟ هل كان موقف المجلس ردا على التحركات الاخيرة في اتجاه الدساترة والتي قاد رفيق عبد السلام عبر مركزه وبالتعاون مع منتدى العائلة الدستورية، بما أثار رعب «جماعة ما بعد الغنوشي» تخوفا من تغير الموازين المستقبلية؟ الملاحظون لا يستبعدون أيا من هذه الاحتمالات ولكن الواضح ان الغنوشي نفسه قد يكون لم يبذل جهدا كبيرا هذه المرة للحيلولة دون صدور القرار، حيث استمات في مرات سابقة في منع اي موقف يؤثر على التوافق الوطني وبلغ الامر حدالتهديد بالاستقالة في مناسبات عديدة. الواضح ان النهضويين عموما وقد يكون الغنوشي منهم يشعرون بأن الأمور لا تسير في الاتجاه الصحيح وان النهضة قد تدفع غاليا فاتورة هيمنة «قيادة جديدة بلا هوية سياسية او ايديولوجية» واضحة على النداء، وفشل الجيل الثاني من ابناء الباجي على غرار يوسف الشاهد وسليم العزابي ... في الحفاظ على ديناميكية التوافق في ظل مشهد سياسي مضطرب. رغم ان النهضة هي السند الأساسي للشاهد كما يرى كثيرون حيث لا تخفى عديد القوى الندائية رغبتها في رحيلها الا انه يمعن في استفزازها بموجب وبغير موجب سواء بإغراق الادارة بتعيينات من «الشباب الدستوري» والهيمنة على الادارة الجهوية والمحلية التي يديرها في القصبة فيصل الحفيان وفِي الحكومة شكري بالحسن، وكذلك الشباب في الحكومة والقصبة مع ماجدولين الشارني والتارزي اي قطاعات التعبئة الانتخابية. اضافة الى ما وصفه البعض برغبة في تهميش امين عام النهضة زياد العذاري، حيث زار الشاهد سوق الجملة والسوق المركزية دون إعلامه واصطحابه، كما رافقه الىبرنامج تلفزي «كمجرد جمهور» ويبدو ان العذاري الذي تغيب عن استقبال الشاهد في مطار صفاقس مؤخرا بدأ يفقد هدوءه وديبلوماسيته في هذا المجال. تبدو النهضة التي تعود شركاؤها على انضباطها مثل «الحمل الوديع» وسط غابة من الذئاب الجائعة والنوايا غيرالصادقة، هذا ما يقوله النهضويون بكل أجنحتهم مع فرق في تقدير الرد بين من يرى ضرورة الحفاظ على التوافق مع توجيه رسائل تحذير لا تؤجج الوضع في البلاد، ولا تؤثر بالخصوص على التموقع الجديد للنهضة بعيد عن قوى التطرف الثورجي، وبين من يرى ان المكان الطبيعي للنهضة مع انصارها وحلفائها السابقين وليس مع «التطبيع مع الفساد». استفزاز النهضويين هذه المرة قد يكون تجاوز الحد المسموح، حيث أطلق الندائيون من جانب واحد حملة «سيمربالديمقراطية» وكأن صوت النهضة مضمون وما زاد الطين بلة هو تصريح أمين السياسات الجديد برهان بسيس ساخرا او متهكما من انه يقصد «ديمقراطية الربيع العربي!! بسيس الذي تشير مصادر مؤكدة الى انه من اكثر «المتوددين» للنهضة في السر، وانه يشرف على إعداد تصور لحكم ثنائي طويل المدى!! برز بتصريحات عدائية في الآونة الاخيرة تجاه الحليف الاول الذي نعته «ببيت العنكبوت»، قبل ان يوجه سهامه لرئيس الحكومة يوسف الشاهد بصورة مجانية او مدروسة. الخطة المسربة من رئاسة الجمهورية للترويج للمبادرة خلفت بدورها مرارة في النهضة حيث اقتصر التنسيق معها على تكليف مدير الديوان بإجراء اتصال شكلي !! وكأنه يتحدث عن حزب هامشي والحال ان المطلوب كان على الأقل تشكيل فريق مشترك بين الرئاسة والأحزاب الداعمة للمبادرة ومنها النهضة بكل مكوناتها وأجنحتها لدراسة المبادرة وتعديلها. هل يؤشر موقف الشورى على قطيعة محتملة بين «الشيخين»؟ يبدو هذا السيناريو مستبعدا في الوقت الراهن ولكن تدحرج الأمور نحو خروج نداء تونس من جبة الباجي قائد السبسي،وعجز القيادات التي اختارها السبسي لرعاية التوافق قد يؤدي في المحصلة الى مفاجآت مع نهضة يحاول فيها «جماعة ما بعد الغنوشي» استغلال الصعوبات التي يمر بها التوافق لاضعاف «الشيخ «وطي صفحة المؤتمر العاشر وتصعيدقيادة راديكالية قبل المؤتمر القادم الذي سيغادر فيه الغنوشي النهضة. التيار الدستوري المعني الاول بالمصالحة يبدو تائها مرة أخرى بين احلام استعادة المجد التليد، والبحث عن «وراثةسهلة» لرئيس الجمهورية، وموقف غير واضح من النهضة يغلب عليه الجانب الانتهازي اي «اعطونا المصالحة وسنرى ماذا نفعل في المستقبل معكم». أما الغنوشي الذي استثمر كثيرا في التوافق وبنى استراتيجيته المستقبلية على تحالف قوي مع الدساترة في النداء وخارجه، انطلاقا من تحالفه مع رئيس الجمهورية ، فيبدو في موقف دقيق بين خيارات صعبة، داخل النهضة وخارجها.كذلك والبلاد تقف على فوهة بركان قد ينفجر في اي لحظة وفِي اي مكان وبأي شكل، بما ينذر بصائفة ساخنة تديرها نخبة تغرق يوما فيوما في الضعف ومنطق الغنيمة ضيقة الافق. وهو ما يعيه «الشيخان» جيدا كما تؤكد المصادر المقربة منهما، مراهنين على إنهما لم يفقدا خيوط اللعبة، وأنهما يدركان جيدا ان استكمال دورهما التاريخي بإرساء التوافق ما زال يمثل الانتظار الاول للتونسيين وان كان ذلك على ما يبدو ليس على هوى الطامعين / الطامحين لوراثة السبسي والغنوشي .