مساء أمس الأول عندما غادرت مكتب الجريدة وأنا في طريق عودتي الى البيت لاحظت أن الطرقات خالية إلا من سيارات الأجرة فاستعدت مشهد الطرقات عند موعد الافطار في رمضان.. ورحت أتساءل ما الذي حدث حتى خلت الشوارع من المارة والسيارات والزحمة؟ كانت المسألة تدعو الى الاستغراب والتساؤل ولكن ما إن فتحت راديو السيارة حتى تذكرت المقابلة الكروية التي كانت تدور في تلك الساعة بين برشلونة وريال مدريد.. لقد أوقفت هذه المقابلة كل حركة.. وكل نشاط.. وأعادت الناس الى بيوتهم.. وكأنها مقابلة بين الترجي والافريقي.. وربما أكثر.. وكأنها تجري في تونس.. أو في بيت كل تونسي.. ولأنني الى الآن لم أستطع فك لغز الكرة وسحرها وقوتها وجبروتها فلقد أوقفت السيارة ونزلت منها لأستنشق الهواء عله يساعدني على الاستيقاظ من نومي.. وغيبوبتي.. فأرى العصر على حقيقته وأفهمهه كما يجب.. وأتحرر من ثقافة «الثقافة»!!! «تفرق كتير»! بالصدفة عثرت أمس على مذكرات الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وعنوانها «عين بكت من خشية الله» روى فيها بعض ذكرياته.. وشهاداته... وقدم من خلالها عصارة تجربته مع تلاوة القرآن الكريم والعيش في ظلال الكتاب الحكيم.. ولم أعرف أن الشيخ عبد الصمد حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره إلا أمس.. وعندما عرفت ذلك ترحمت كثيرا على مدّب الحومة الذي لم ينجح في تحفيظي ولو بعض السور القصار من القرآن الكريم وتأسفت كثيرا على نفسي.. لقد بذل «عمّ المدب» ما يستطيع من الجهد ولكن «صحة راسي» انتصرت عليه وفشل في أن يجعل مني «مدّب صغير» فلم أحفظ الا بعض السور القصيرة والآيات القليلة!! كان يقدم لي الرشوة تلو الرشوة من حلوى وشوكلاطة وحلقوم لكي أحفظ.. ولكنني كنت لا أرفض الرشوة وأقدم له مقابلها الوعود.. وأقول له ما يظن معه أنني سأحفظ.. وسأكون تلميذا منضبطا.. ومجتهدا.. ونجيبا غير أنني للأسف الشديد كنت أقدم له وعودا كاذبة.. وضاعت طفولتي وضاع مني حفظ القرآن الكريم.. وطوال عمري كنت أصغي الى الشيخ عبد الصمد بقلبي.. وما من مرة سافرت فيها الى القاهرة الا واشتريت تسجيلاته.. وأظلّ أسمع.. وأسمع الى أن تدمع عيناي.. وفي كل مرّة أستمع الى صوته الرائع وطريقته الخاصة جدا في التلاوة أتذكر على الفور مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم.. سيدنا بلال رضي الله عنه الذي كان يحبه رسولنا صلى الله عليه وسلم.. ويحب الاستماع الى صوته العذب وهو يملأ فضاء مكة بأشهد أن لا إلاه إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ويدعو الى الصلاة.. لا أدري لماذا ارتبط في ذهني صوت الشيخ عبد الصمد بصوت بلال.. ولا أدري كذلك ان كانت تجوز المقارنة أو لا تجوز.. ربما أكون مخطئا، ولكن هذه الصورة ثابتة في ذهني ولا أستطيع أن أتخلص منها.. إن الشيخ عبد الباسط يصفونه في مصر بڤيتارة السماء ويصفه محمود السعدني بأنه صوت قادم من السماء.. وهو كذلك بالفعل.. فللرجل دفء صوتي رباني لا يمكن أن تسمعه إلا وتتذكر عظمة الله وبأن الله على كل شيء قدير وبأنه يهب الحكمة والعذوبة والجمال لمن يشاء.. وهناك اليوم عشرات يحاولون تقليد الشيخ عبد الصمد ولكن تبقى كلها مجرد محاولات.. ومجرد نسخ تتراوح بين الضعف والرداءة.. أما الأصل فإنه يبقى شامخا ومتميزا ومتفردا.. إنني كلما استمعت الى هذه الاصوات التي تريد اقتحام عالم الشيخ عبد الصمد تذكرت الأغنية الشهيرة والخالدة لكروان الأغنية العربية نجاة الصغيرة: «تفرق كتير».. نعم.. «تفرق كتير».. فلم يخلق الله الا عبد الباسط عبد الصمد «واحد» ... لن يتكرر..