كان ذلك يوم 23 جانفي 1952 وبعد خمسة أيام من تحديد اقامة الزعيم الحبيب بورقيبة بطبرقة وبعدما فشلت مفاوضات الحكم الذاتي ومذكرة الرفض المؤرخة في 15 ديسمبر 1951 التي تسلمتها حكومة الباي التفاوضية التي شارك فيها حزب الدستور. كان ذلك في مثل هذا الْيَوْمَ الذي تتذكر فيه طبلبة شهداءها الثمانية الابرار الذين سقطوا برصاص الفرنسيين. لم تكن معركة عادية مثلما كان يحدث عادة بين حكومة الاستعمار والاحرار التونسيين اذ كان هؤلاء الاخيرين يتلقون الضربات يموتون فيها ويسجنون ويبعدون، واذكر خاصة احداث 9 أفريل 1938 التي مات فيها عدد من التونسين بُدون رد فعل مناسب ليردع المستعمرين . لذلك خيرت ان اخص تلك الذكرى بهذه الكلمات وتعريف الشباب بفضل تلك المعركة على تقرير مصير تونس ونهاية الاستعمار وفتح الباب للبلدان الاخرى المستعمرة في افريقيا خاصة وقلب موازين القوى وانتهاء غلبة السلاح امام عزيمة المناضلين. وللتذكير أقول كان الحزب الحر الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة قبلها يفضّل المقاومة السلمية ويتجنب العنف المادي اعتمادا على ما كان سائدا بعد اعلان ولسن رئيس الولاياتالمتحدةالامريكية حق الشعوب في تقرير المصير، ولكن غلاة الاستعماريين الفرنسيين لم يدركوا ذلك ولم تلتزم حكومتهم بذلك المبدأ وأفسدوا عليها كل المحاولات التفاوضية بل اجبرها حتى بالتراجع في وعودها بمنح التونسيين حكما ذاتيا يديرون به شؤونهم وبعدما اقرت باهليتهم وصرح بذلك وزير خارجيتها علنا روبار شومان وعلى اساسه دخل حزب الدستور في الحكومة التفاوضية التي عادت من التفاوض بخفي حنين. لذلك قرر الحزب الدستوري الجديد عقد مؤتمره يوم 18 جانفي 1952 لتحديد خطته المستقبلية ودخول المعركة الاخيرة بالوسائل الملائمة خاصة بعدما غيرت مقيمها العام واختارت ديهتكلوك المشهور بالتحدي وجاء الى تونس في بارجة حربية لارهاب التونسيين. كان اول ما قام به هو ابعاد بورقيبة الى طبرية صحبة المنجي سليم وحدد إقامتهما وبدا في ضبط الأمور ظنا منه انها مثل العادة ولكن ذلك لم يكن كما كان يشتهي ويريد. كان بورقيبة قد سبقته واستعد لتلك المعركة وهَيِّئ لها ما يلزم سياسيا وماديا من العتاد والرجال المخلصين وأعطاهم توجيهاته السرية ولمح للمعركة في خطب علنية جرت ببنزرت المنستير، وكانت طبلبة التي تربطها به علاقات ود ومحبة عبر السنين من بين هذه المدن والقرى واهلها مدرك لتعليمات بورقيبة حتى بالتلميح . هكذا كان رد فعل احرار طبلبة يوم 23 جانفي 1952 لما قرروا الدخول في معركة مفتوحة مع جيش الاستعمار وبما كان لدىهم من وسائل بدائية اجبرت كوكبة من العسكر الفرنسي من عدم المرور منها الى المهدية من المكنين وورموه بالقنابل اليدوية من فوق المباني المحاذية للطريق الوحد الذي يمر منه وجوبا العابرون . كانت تلك المتفجرات من صنع المواطنين وتسمى (بالعصيان) وكان يستعملها البحَّارة لصيد السمك خلسة وحولوها الى نار حارقة ارجعت تلك الكوكبة العسكرية على أعقابها ولم تقدر على المرور بالرغم من استعمالها لكل الأسلحة التي زودت بها وقتل مساءها ثمانية شهداء من اخلص الوطنيين الطبلبيين: امرأتان وست رجال ينامون آلان في تلك الروضة مع شهيدين آخرين من شهداء 5 سبتمر 1934 التي جرت أحداثها 1934 بالمكنين على اثر ابعاد زعماء الحزب الدستوري الجديد للجنوب. لهذه الأسباب لم تكن تلك المعركة عادية بل كانت الاولى التي أعلن فيها الحزب المعركة المسلحة بما له من إمكانيات قليلة فكانت إشارة لانتشار العنف والتخريب وقبل صعود المقاومين للجبال وإجبار منداس فرنس رئيس حكومة فرنسا بالرضوخ وقبول التفاوض مع الدستوريين على قاعدة الاستقلال الذاتي الذي انتهى باستقلال تونس التام بموجب اعلان 20 مارس 1956. لذلك اترحم على هؤلاء الشهداء واتمنى على الجميع الإبقاء على ذكراهم لأنهم كانوا مخلصين قدموا ارواحهم فداء لأجل تونس التي نحن فيها نعيش ولم يكن لأحد منهم نية في الجزاء الا عند رب العالمين.