لو قدّر لي أن أكتب عن الرجال الذين عرفتهم لكتبت عن سيدي مصطفى: كلمات أوّلها ذهب ووعود وختامها عطر و ورود. عرفت الرجل أوّل ما عرفت وأنا في فتوّتي الأولى بالمشاهدة. مشاهدة شريط قصير في زمانه ولكنه فسيح رحب في مضامينه. سلسلة من ذهب: إحدى روائع السينما الوطنية بل الكونية. والأمر لا يتعلّق البتّة بظهور النجمة العالمية ابنة حلق الوادي " كلوديا كاردينال" فيه فذاك طالع خير عليها وما أكثر الناس الذين استنجبهم سيدي مصطفى وقد كانوا من قبل مغمورين. سلسلة من ذهب هي إيذان بانبلاج ملحمة البناء في كنف التآزر " شعب واحد .. شعب واعد" إذن كان وعدا علينا جيل الشباب أن نسهم بدورنا في تأصيل هذا الكيان الذي ما انفكّ الأديب مصطفى الفارسي طوال حياته يحمل رايته في مختلف المواقع وعلى مرّ الأزمان وفي كلّ الأصقاع. ثمّ عرفت سيدي مصطفى بالسّماع فكنت أتابع بكلّ شغف عبر الأثير حصّته الأسبوعيّة " ملتقى الإذاعات" كل يوم سبت على الساعة الثانية والنصف، فكانت نافذة يفتحها بانتظام لكي نستنشق نسمات من الشرق ومن الغرب يذكي فيها فضول المعرفة ورغبة الاتصال بالآخر والتواصل معه. لقد حشرنا سيدي مصطفى قبل الأوان فيما أضحى يسمّى بالعولمة والذي تنبّأ به المصلح التونسي خير الدين ووسمه في أقوم المسالك ب "القرية الكونية". ثمّ واصل سيدي مصطفى رسالته الإعلامية عبر برنامج أسبوعي عن الأدب في آسيا وفي إفريقيا سعى بفضل ما أوتي من دراية وولع بالمبدعين خارج المنظومة الغربية إلى تعريفنا بثقافات أخرى غير مألوفة ولكنها ذات شأن وبحسب تقديري، فإنّ الخيط الذي كان يربط بين كل برامجه هو تعلّقه بل قل إيمانه بإنسانيّة الإنسان أينما وُلِدَ وأَينما وُجِدَ وأنّ الإبداع ليس حكرا على أيّة جهة من الأرض التي تأوينا وأنّ الشمس تشرق للجميع. وأخيرا عرفت سيدي مصطفى إبّان أماسي الشعر في دورات عيد الورد حيث تتفتّح القرائح وتعبق الطيوب، عرفته عند الكبر أي لمّا كبرت أنا وظلّ هو هو الأديب الهَرَمُ الذي اكتمل بناؤه بل قل أحكم بناؤه لأنّ سيدي مصطفى أضحى بالنسبة لي وربما لكثير من أترابي مصطفى الحكيم. ومن حكمته أنه غالبا ما كان يمزح " وربّ جدّ جرّه الهزل " خصوصا إذا ما استفزّه أحدنا باستعراض عبارة " مثقّف " فيردّ بعبارته المعهودة " بل قل متثقف " وهي تعني ما تعني خاصة عندما ينطق بها لسان حكيم. حكيم نفتقده الآن يقول الأفارقة: " إذا مات حكيم فذاك عبارة عن مكتبة تحترق ". لقد فاضت روح الأديب ولكنّ أدبه باق وكتبه باقية ما بقي قارئ فوق أديم هذه الأرض التي عاد إليها سيدي مصطفى إن شاء الله راضيا مرضيّا. يقول أبو الطيّب المتنبّي: تبخل أيدينا بأرواحنا على زمان هنّ من كسبه فهذه الأرواح من جوّه وهذه الأجسام من تربه الموت باب كلّ الناس داخله. لقد كتبت يا أيّها الرّاحل أنّ القنطرة هي الحياة ولم لا تكون الحياة هي القنطرة التي نعبرها نحو المنعرج .. المحتوم ... منعرج الموت، ولكن هل حقّا يموت المبدعون ؟ لقد قلت ذان يوم في حديث مع الحبيب جغام حول الشاعر الملهم منوّر صمادح: " إنّ المبدعين ينسحبون .. ولا يموتون..". ولعلّك تتأسّى بالشاعر الروسي Vladimir Maïakovski (1893-1930) الذي فُتنت به فتصيح فينا: يا رفاق المستقبل اسمعوا الحركاتي يقول سوف أتخطّى كتبي وأكلّم الأحياء تماما مثل كلّ حيّ ولعلّي أتأسّى بك عندما خاطبت ذات مساء روح الفنانة التشكيلية ذات الإحساس الرهيف نزيهة المغربي وتوجّهت إليها بكلمة قلّ استعمالها لدينا: يا أُخيّتي ". فأقول مثلما قال أندري مالرو عند نقل رفات Jean moulin زعيم المقاومة الفرنسية عام 1964 إلى البنتيون وكنت متواجدا " أدخل جان هنا في هذا المعبد معبد العظماء" أدخل يا أخي في رحاب ذاكرة الأوطان وسلام على روحك الطاهرة التي انطلقت إلى النور إلى النور! فالنور عذب جميل إلى النور ! فالنور ظل الإلاه.