في الذكرى السابعة عشرة لوفاة الزعيم الحبيب بورقيبة أثار تاريخه كثيرا من الجدل المشروع خاصة و قد أتاحت الثورة حرية التعبير و هذا فضلها الأول. فالتاريخ التونسي ظل حبيس التفسير الواحد على مدى ستين عاما مما يبرر اليوم سنة 2018 هذه المواقف المتباينة ولا ننسى مساهمات الأستاذ الزميل العلامة د. عبد الجليل التميمي صلب مؤسسته الأكاديمية الخاصة في إنارة أركان مظلمة من تاريخ تونس و توثيق الشهادات القيمة التي لن ننسى فضل التميمي في إضافتها لأرشيفاتنا الوطنية كما لا ننسى العمل المتميز الذي تقوم به هيئة الحقيقة و الكرامة لتمكين الضحايا و المضطهدين من الإدلاء بشهادات حية و مؤثرة تسلط الأضواء الكاشفة على ما كان يحدث في السر والعلن من مظالم ومكائد وإعدامات وتنكيل وتعذيب استهدفت آلاف الرجال و النساء من أجل تثبيت الحكم المطلق لكل من بورقيبة وبن علي مع الفرق الشاسع بين رجل الدولة و رجل الصدفة. وأنا من موقع الشاهد المقرب من كل تلك الأحداث عملت مع بورقيبة عن كثب ووشح صدري بوسامين (الاستقلال والجمهورية) لكني عارضته قبل مسؤولياتي وأنا يافع حين شاركت بحماس طفولي في مظاهرة القيروان الشهيرة والرائدة سنة 1962 من أجل حماية الإسلام و منع التنكيل بأستاذنا الإمام عبد الرحمن خليف وسقط فيها برصاص الجيش سبعة شهداء ثم عارضت نهج بورقيبة وأنا شاب فلوحقت وأوقفت يوم 4 سبتمبر 1969 مع الصديقين أحمد الهرقام وعامر سحنون وهما شاهدان وحقق معنا محافظ الشرطة حسونة العوادي وصودر جواز سفري وأنا طالب ثم التحقت بالحزب الواحد (لم تكن هناك أحزاب) تعزيزا لصديقي محمد مزالي رئيس الحكومة و حاولنا قدر المستطاع أن ننهج في صلب الحزب البورقيبي سياسة الانفتاح على التعددية الحزبية وسياسة تعريب التعليم وتكريس التعاون جنوب جنوب وهي خيارات في الحقيقة تتعارض مع مشروع بورقيبة الذي عرفنا أنه غربي الهوى و المصالح و تغريبي بالضرورة يرهن استقلالنا لدى الغرب الإستعماري لغة و ثقافة و اقتصادا. إلى أن جاءت سنة 1986 حيث نشطت ضد محمد مزالي لوبيات تغريبية و نفينا خارج البلاد مدة 14 سنة كنا فيها مطلوبين من أنتربول و ملاحقين بالأقلام الخسيسة تنهش أعراضنا و تشتت أولادنا في أرض الله فولد أولادي في فرنسا و هاجرت بنتاي إيناس و سيرين إلى أمريكا و لم أرهما لمدة تسع سنوات....نعم تسعة أعوام حين تركت البنتين طفلتين و التقيتهما شابتين ثم لم ألتق والدتي المرحومة الحاجة السيدة الحداد من سنة 1990 الى سنة 1999 أي تسع سنوات حتى أني لما دخلت عليها بعد عشرية غياب لم تعرفني و سألت أولادها (من منكم أحمد ؟) و يعلم الله كم عانينا في سنوات المنفى الأربع عشرة في فرنسا التي منحتنا اللجوء السياسي و في قطر الحبيبة التي عملت فيها أستاذا جزا الله كل من ساندنا و أجارنا في المحنة كل خير...فموقعي المأسوي في قلب السياسة فرضته علي أقدار الله تعالى و الحمد لله على المحنة و المنحة و على السراء و الضراء. أنا أذكر بهذه الحقائق لا تباهيا و لا غرورا بل اعتبارا لأترحم على أرواح شهداء تونس الذين دفعوا أكثر من هذا النزر القليل و لم يبخلوا بأرواحهم الطاهرة مما يدعونا نحن للتواضع و الاعتبار. و أنا بعد كل هذه المحن أبتسم بمرارة حين أسمع في التلفزيونات ألقاب (المناضل فلان أو المناضلة فلانة) تطلق على بعض شبابنا الغض الزغاليل بسبب انتمائهم لهذا الحزب أو ذاك ظنا منهم أنهم يناضلون وهم عن حسن نية يبدأ نضالهم و ينتهي عند عقد اجتماع أو المشاركة في نقاش تلفزيوني بسيط. و لكل جيل مفهومه للنضال ! نعود الى شخصية بورقيبة المزدوجة المعقدة التي أعرفها بعمق لأني على مدى سنوات تحاورت معه مباشرة عديد المرات و تعرفت على أقرب المقربين إليه و سجلت شهاداتهم و سأكتب إذا ما وهبني الله الصحة مذكرات حول هذه الحقائق الصادمة العجيبة ! و إعادة قراءة التاريخ لا يعني التشكيك في زعامة بورقيبة إلا أن تقييم الأخطاء ضروري لتلافيها في المستقبل و عجبي اليوم كيف تحيي بعض النخب ذكرى الزعيم لا بعقد ندوات علمية أو بمراجعة الثوابت المدلسة و المفروضة بل بالطواف بالمباخر و الصور العملاقة كأنما نحن في جاهلية هبل واللاة و العزى مع محاولات لتوظيف تاريخ الزعيم لاكتساب الزعامات. الحقيقة التي يجب أن نضعها نصب عيوننا هي أن تونس بعد ستين عاما لم تتقدم بالمشروع البورقيبي و النمط التونسي ! فقد كنا نحن و كوريا الجنوبية و ماليزيا و سنغفورة في مطلع السبعينات على نفس مستوى الاستعداد للتنمية و الإقلاع بشهادة صندوق الأممالمتحدة للتنمية PNUD حين كانت بلادنا بالضبط تساوي كوريا الجنوبية في المساحة و السكان و الكوادر و الثروات الباطنية والطاقة والجامعات و القدرة على النمو و التميز ....و النتيجة سنة 2018 أن مجمل ميزانية الجمهورية التونسية توازي.....ربع ميزانية سامسونج !!! فتونس راحت ضحية الخيارات الفردية و المصالح الشخصية و العائلية و كبت الحريات و مواصلة (البارانويا) الجماعية إلى يوم الناس هذا حين ندرك أن أغلب النقاشات السياسوية التافهة التي نسمعها في وسائل الإعلام ليست لها أية علاقة بمشاغل الناس الحقيقية.