ببادرة من الاعلامي محمد المي وتحت إشراف السيد وزير الثقافة احتضنت مدينة الثقافة بالعاصمة في سهرة ليلة الفاتح من جوان الجاري فعاليات الندوة الفكرية التي التأمت على يومين احتفاء بمرور خمسين عاما على وفاة الأديب والمفكر حسن حسني عبد الوهاب هذه الشخصية التي تعد منارة من المنارات التي تفتخر بها بلادنا في الأدب والفكر والسياسة والتاريخ فهو من هذه الناحية شخصية موسوعية جمعت الكثير من الاختصاصات والمعارف فإلى جانب عضويته في المجمع اللغوي وتخصصه في كتابة المقالات في الصحافة الوطنية وحضوره الكثير من المؤتمرات التي عقدها المستشرقون ودافع فيها عن العروبة والإسلام فقد تقلد مناصب في الحكم واشتغل في إدارة الاحتلال الفرنسي وتدرج في السلم الوظيفي إلى أن أصبح وزير القلم والاستشارة وعين قايدا في الكثير من الجهات الداخلية بالبلاد وهو منصب سياسي لا يمنح عادة إلا لمن يحضا بالثقة وتتوفر فيه الكفاءة والقدرة على تمثيل الدولة في الجهات. ونظرا لقيمته العلمية والثقافية وتوفره على قدر كبير من الدراية والخبرة في تسيير الإدارة فقد استعانت به دولة الاستقلال ولم تمنع عنه شبهة التعامل مع المستعمر من أن يوظفه الرئيس الحبيب بورقيبة على رأس المعهد الوطني للآثار ويمنحه ثقته على الجهود التي بذلها في حفظ الذاكرة الوطنية حيث يعود له الفضل في حفظ الأرشيف الوطني وإنشاء سبعة متاحف وجمعه لكمية الكبيرة من العملة أسس بها متحف العملة ودفاعه عن فكرة الأمة وخصوصيتها. لكن رغم قيمة هذا الرجل وخصاله الكثيرة التي لا يشك فيها أحد خاصة فيما يتعلق بالعلم والمعرفة والثقافة و الدراسات المعاصرة التي ترى فيه رجلا ذكيا جدا فانه شخصية محيرة ومثيرة للجدل فهو لم ينخرط بصفة مباشرة في الصراعات التي عرفها عصره وعرف كيف يخرج من المآزق التي أوقع فيه نفسه نتيجة ازدواجية شخصيته المتعاونة مع المستعمر من ناحية والمنتصرة للوطنية والمقاومة من ناحية أخرى فهو وإن كان قد اشتغل في الإدارة الفرنسية وخدمها بإخلاص إلا أنه كان وطنيا منخرطا في النضال الوطني في جمعية الشباب التونسي واحتسابه على جماعة الثعالبي الأمر الذي جعل البوليس السياسي الفرنسي يراقب تحركاته ويكتب حوله التقارير وهو ما كشفته الوثائق الموجودة في الأرشيف الوطني. هو شخصية مركبة وصعبة الفهم وفيها مفارقات عجيبة فما عرف عن حسن حسني عبد الوهاب أنه عاش حياة طويلة ولكنها كانت حياة هادئة في قرن مليء بالعواصف ولكنه مر تحت العاصفة ومن دون أن تؤثر فيه .. تجاوز الظرفيات واهتم بالجوهر فلم ينخرط في الصراع الذي حصل بين الحزب القديم والحزب الجديد رغم أنه كان من اتباع الثعالبي لكنه لم يعاد بورقيبة لم ينخرط في الصراع اليوسفي البورقيي فانتماؤه اليوسفي لم يمنعه من الاقتراب من بورقيبة ليصبح من اتباعه كان شخصية براغماتية سريعة التأقلم مع الوضعيات المختلفة كان يغير مواقفه بكل سهولة حسب موازين القوى واكراهات المرحلة فعمله في الإدارة الفرنسية لم ينسه تونسيته ولا اهتمامه بالقضية الوطنية كان لا يرى حرجا من أن يعمل في مؤسسات المستعمر وفي نفس الوقت كان مهتما بكل ما يشغل الحركة الوطنية والقضية التونسية. كان مخزنيا في إطار الحركية الاجتماعية مع الدولة الحسينية كان يؤمن أنه عليه أن يخدم الإدارة حتى وإن كانت تدار من قبل الاستعمار لأنها في الأصل هي إدارة الدولة التونسية ولاعتقاده ان الإدارة عليها أن تتواصل وتستمر وهي باقية حتى وإن كانت تحت الاحتلال كان يعتقد أن خدمته في الادارة التونسية مفيد حتى وإن كانت دولة فاقدة للسيادة وهذا التوجه يحسب له فبفضل هذه النظرة أمكن لدولة الاستقلال أن تجد أرضية صلبة في مجال العمل الاداري ما سمح لها ببناء إدارة عصرية ومتطورة وكل هذه الخصال وكل هذا السلوك هو الذي جعله مقبولا لدى المستعمر وعند قادة الحركة الوطنية . ما يحسب لحسن حسني عبد الوهاب أنه كان مثقفا تماهى مع المستعمر في إطار دولة الاحتلال ولكنه خدم الحركة الوطنية بطريقته بحفظه للذاكرة الوطنية وانتصاره لفكرة الوطن ودافع عن فكرة أن تونس أمة كاملة المقومات .. كتب عن الشخصية التونسية وحدد خصالها حتى لا تذوب في الاحتلال ودافع بقوة عن العروبة والإسلام كما لم يدافع عنهما أحد رغم موقعه المخزني وطبيعة عمله في الإدارة الفرنسية .. ناقش المستشرقين وفند حججهم ولعله في هذا المجال من القلائل الذين تصدوا لشبهات المستشرقين لذلك لم يجد من خونه أو نعته بالعمالة. في مجال حفظ الذاكرة الوطنية فقد إشتغل حسن حسني عبد الوهاب على المسألة التاريخية وحفر في التاريخ الطويل للبلاد ليثبت للمستعمر أن تونس أمة كباقي الأمم وأن لديها تاريخ ثري وعريق جذوره تعود الى 3000 سنة حضارة لذلك كانت فكرة الأمة فكرة مركزية في فكره وكتابه خلاصة تاريخ تونس كتبه في هذا الاتجاه لإثبات الذاتية والخصوصية التونسية وبأن تونس أمة لا يمكن أن تقبل الذوبان في الخصوصية الفرنسية أو تصبح تابعة للمستعمر الأمر الذي حرصت عليه فرنسا لما دخلت البلاد من بوابة الحماية قبل أن تتحول إلى استعمار للأرض والبشر . لكل هذا الجهد المعرفي فقد اعتبر حسن حسني عبد الوهاب مخزنيا مثقفا تعامل مع روح عصره بكل ذكاء واستفاد من عمله صلب إدارة الاحتلال من أجل أن يحافظ على الادارة التونسية.. وكان سياسيا مخزنيا رأى أن يطوع فكرة المخزن لفائدة الصالح العام وخدمة الأهداف الوطنية التي يلتقي فيها مع الحركة الوطنية وهي وضعية صعبة قلما ينجو منها صاحبها إذ كيف يمكن للمرء أن يكون في نفس الوقت متعاونا مع المستعمر ومنتصرا للقضية الوطنية من دون أن يخون وتقع تصفيته أو يطرد من الإدارة الفرنسية ويفقد ثقتها وتمنح له مناصب سياسية في الدولة ؟ لكن رغم هذه الصعوبة فقد أمكن لحسن حسني عبد الوهاب أن تكون له يد في خدمة المستعمر و أخرى في خدمة القضية الوطنية كان يؤمن أنه يمكن أن يخدم القضية التونسية من داخل المنظومة الاستعمارية. لقد وفق في أن يكون مخزنيا ويعمل في الإدارة الاستعمارية وفي نفس الوقت وطنيا مساندا لجهد السياسيين من زعماء حركة التحرر .. وفّق في أن يكون أفّاقيا قادما من الجهات الداخلية وفي نقس الوقت " بلديّا " من سكان العاصمة وأن يكون أندلسيا وتركيا معا لذلك كانت سيرته فوق الشبهات واستطاع أن يكون صديق الجميع من دون أن يجلب له كرهم ومعاداتهم ومواقفه السياسية كانت ضمن هذا المنطق من التفكير تبحث عن التوازن بين الاستعمار والوطنيين فقد كان حريصا على ربط صداقات مع الوطنين من دون أن يفك الارتباط مع المحتل. هذا هو حسن حسني عبد الوهاب وهذه هي شخصيته المثيرة للجدل حاولت هذه الندوة أن تبرز جوانب منها وتبقى جوانب أخرى تحتاج أن نسلط عليها الضوء خاصة ما تعلق منها بمنهجه في كتابة التاريخ والمنهجية التي اتبعها للحديث عن الذاكرة التاريخية للبلاد التونسية أو كما يحبذ تسميتها بالأمة التونسية.