يكتبه: الهادي السنوسي التشريعية حدّدت السيناريوهات ووزّعت الأدوار... المرزوقي يمنح «النّهضة» فترة إضافية للمناورة!.. يخطئ من يعتقد أنّ الحلّ لمعضلاتنا السياسية على وجه الخصوص سيأتينا على راحتَيْ رئيس الجمهورية المقبل... ويخطئ أكثر من يتصوّر أن المرحلة القادمة ستشهد انخفاضا في درجات الحرارة التي عشناها على مدى الأربع سنوات الأخيرة. أقول هذا وأؤكّد ما ذهبتُ إليه في مقال سابق بالاعتماد على توضّح عناصر اللّعبة ومقدّرات كل طرف فيها بقطع النظر عن لاعب «قرطاج»... فأيّا كان اسم السّاكن الجديد لقصر الضاحية الشمالية فإنّه لن يكون قادرا لوحده على إدارة دفّة البلاد وكذلك الشأن بالنسبة إلى المطلّ من قصر الحكومة بالقصبة!... التغوّل والتسوّل والصُرّة الفارغة... قد يبدو هذا الطرح غريبا في ظلّ الصّلاحيات الممنوحة لرئيسيْ الجمهورية والحكومة باعتبارهما المكلّفين (كلّ في إطار مشمولاته) بتنفيذ سياسة الدولة في مختلف المجالات... فماذا يبقى بأيديهما لو نُزعت منهما تلك الصّلاحيات؟.. إنّ الصّلاحيات مثبّتة في الدستور وتتقاسمها السّلط الثلاث التشريعية والتنفيذية برأسيْها والقضائية وأسّس بينها عدّة مسالك وحدّد لها دوائر تحرّكها ووفّر لها وسائل الدفاع عن مشمولاتها وردّ التجاوزات التي قد تطرأ بينها من جهة وبينها وبين أي جهة أخرى!.. ورغم ذلك فقد بدا واضحا خلال الحملة الانتخابية للرئاسية أن كلّ طرف سعى إلى جذب الحصيرة من تحت أقدام الآخرين حيث وقع إثراء المدوّنة الخطابية بمفردات جديدة على ساحتنا السياسية مثل التغوّل والتّسوّل.. فهذا يخشى تغوّل مرشح آخر إذا ما جمع بين الرئاسية والمكانة التشريعية.. والآخر يُلصق به تهمة التسوّل العاطفي لاستمالة الناخبين.. والحال أنّ كلاهما على خطإ إذْ لا معنى لهذه المفردة أو تلك في حضور قوّة ثالثة بإمكانها التأثير الأقوى في القرارات والحدّ من تجاذبات الصلاحيات.. لقد فات فريقي الدِّربي السياسي الساخن أن مباراة المصير تدور فعليا في «ملعب» باردو أي مجلس نواب الشعب.. ففي غمرة الحماس الانتخابي ينسى المتنافسون أنهم لا يُمسكون بكل الخيوط لنسج شبكات الصيد لديهم فيتصوّرون أنهم قادرون على تنفيذ رؤاهم وأفكارهم دون أن يجدوا صدّا أو ردّا من أحد. لقد كان واضحا أن الانتخابات التشريعية أعطت نتائج قَلَبَت الموازين وأفرزت تركيبة مفتوحة على عدّة اتجاهات وتوجّهات بكل ما فيها من تأثيرات مباشرة على التصرّف في قصْرَيْ القصبة وقرطاج.. فالانتخابات آلت إلى بروز قطبيْن اثنين «النداء» و«النهضة» متبوعين بثلاثي «الوطني الحرّ» و«الجبهة الشعبية» و«آفاق تونس».. هذا الثلاثي الذي سيكون له دور وأيّ دور في مجريات البطولة البرلمانية.. كما سنبيّن ذلك لاحقا.. ثلاثي التّرجيح... ولعلّ أقرب الأطراف إلى حقيقة الوضع هما القوّتان الفائزتان بالرّيادة في الانتخابات التشريعية الأخيرة وأعني «النداء» و«النهضة» طبعا.. فهما لم ينتظرا نهاية الدّربي الرئاسي لتتحرّك ماكيناتاهما في اتجاهات مختلفة قصد ضمان النّصاب المعطّل والميسِّر في الآن (بتعبير الشيخ راشد الغنّوشي)... «النداء» من جهته ضمن منذ أيام أصوات «آفاق تونس» في المجلس ويسعى إلى التقرّب واستمالة «الجبهة» و«الوطني الحرّ»... وهذه التّوليفة كفيلة إن حصلت طبعا بضمان الاستقرار لحكم «النّداء»... وفي المقابل تسعى «النهضة» بدورها إلى استباق الأحداث واستقطاب المجموعات المؤثّرة عدديا لتكون قوّة التصدّي الخفيّة إذا ما هبّت الرياح في غير صالحها... وتبدو مهمتها أعسر في ظلّ الإشارات والتسريبات التي تشير إلى بلوغ حدّ التفاهمات بين «النداء» وبعض الأطراف الأخرى!... المباراة في غير ملعب الرئاسة ساخنة وتُنْبِئُ بالمزيد من الارتفاع في درجات حرارتها وذلك في ظلّ الدّور التحكيمي الذي سيتولاّه الثلاثي الذي ذكرناه أي «الوطني الحر» و«الجبهة الشعبية» و«آفاق تونس» (39 صوتا في الجملة). وأعتقد أن هذا الثلاثي شاعر بأهمية دوره ولذلك فلا أظنّه سيستسلم لخطّاب ودّه دون مقابل وبإمكانه فرض طلباته بالنّظر إلى حاجة الآخرين لخدماته والعكس غير صحيح... فهل تتمّ الصّفقة وعلى أيّ أساس وما هو الثّمن؟ واعتمادا على الأرقام يبدو موقف «النهضة» الأصعب في هذا الباب لأنّها حتى في صورة استقطاب هذا الثلاثي فإنّ عدد أصواتها سيبقى في حدود 108 (69 + 16 + 15 + 8) وعليها البحث عن صوت إضافي من بين شتات الثلاثة وعشرين صوتا المتبقية لضمان النّصاب الأغلبي. وفي المقابل تبدو مهمّة النّداء أيسر إذ يكفيه انضمام «الجبهة» أو «الوطني الحر» بعد أن ضمن «آفاق تونس» ليحصل على 109 أصوات وقد تصل إلى 125 صوتا أي أغلبية مريحة، بانضمام «الجبهة» طبعا.. «النهضة» بين شوطيْ الدّربي .. تبقى هذه العمليات الحسابية مجرّد فرضيات قد تشهدها الساحة النيابية في قادم الأيّام.. إلاّ أنه جدير بالملاحظة أن «النهضة» هي الأفضل حالا بين شوطيْ الدّرْبي الرئاسي والذي يدور بين قائد السبسي والمرزوقي.. أقول الأفضل حالا لأنّها غنمت من مرور الرئيس المؤقت إلى الدور الثاني من انتخابات الرئاسة ورقة «جوكير» من الوزن الذهبي.. وسواء خطّطت لذلك أو لم تفعل أو ساهمت في الإنجاز أو لم تفعل فإن خَرَاجَ الشوط الأول عائد إليها! كيف؟.. «النهضة» تدرك ثقل مخزونها الانتخابي أي أصوات مناصريها وحجم تأثير ذلك في الجولة الحاسمة لذلك فهي لن تترك هذه الفرصة السّانحة تمرّ دون استغلالها على الوجه الأكمل والأفضل لمصالحها الآنية والمستقبلية وستتحرك بكل قواها لاستثمار الوضع وتفويت الفرصة على «النداء» للاستفراد بالسلطة.. وقد لا نستغرب أن يذهب ضغطها باتجاه تحديد الائتلاف الحكومي بينهما وفرض بعض شروطها مقابل الدعوة إلى مناصرة السّبسي في الشوط الأخير من السباق كما لا تستغرب أن يدخل «النداء» في توافقات مع «النهضة».. لكن في أيّ اتجاه وبأيّ صيغة وبأيّ ثمن؟.. الأجوبة قد تأتي وقد يتأخر الإعلان عنها إلى ما بعد النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية... المباراة واعدة كما يقول جماعة الرياضة بالمزيد من التطوّرات والتشويق على ألاّ تتحوّل إلى معركة للإطاحة بالكراسي.. ولعل ما يشغل بال «النهضة» هو أن تبقى ذات ثقل في الحياة السياسية وألاّ تتحوّل من لاعب أساسي إلى مجرّد احتياطي على الدكّة أو متفرّج على المدارج.. وهي إذ تبحث عن موقع ثابت إنّما تفعل وفي الذاكرة ما «فعلوه» بحكومتيْ الجبالي والعريض ولا تستعد الملاحظون عن قرب لكواليس «النهضة» أن تعمد هذه إلى الصنيع ذاته أي «تفجير» الحكومة الندائية ما لم تتحصّل على ضمانات جديّة للاستجابة لطلباتها.. ولكل هذا يُرجّح المتابعون أيضا أن يعْمد «النداء» إلى بعض التنازلات حتى لا تجد الحكومة المنبثقة عنه صدّا آليا قد يُطيح بها إذا ما نجحت «النهضة» في تحقيق أغلبية لفائدتها في المجلس.. إن ما يحدث في الخفاء له دلالات عديدة ولعلّ أهمّها الحِنْكة التي أبْدتها «النهضة» في إدارة الشأن الانتخابي رغم خسارة الرّيادة في التشريعية وما أظهرته من قدرة على المناورة التي اكتسبتها بمراكمة التجارب التي عاشتها.. مطافئ «الحوار الوطني» وفي هذا المناخ المتقلّب يعود الحديث عن الحوار الوطني ودوره الفعّال في عقلنة الحوارات بين مختلف الأطراف المعنية بتفاصيل المرحلة الدقيقة التي تعيشها البلاد. يعود الحديث عنه لأنه أثبت قدرته في الأزمات السابقة على احتواء الخلافات وتقريب وجهات النظر بين الفُرقاء والوصول إلى تفاهمات أدّت في النهاية إلى قطع مسافة معتبرة على درب الديمقراطية.. وهو مدعو اليوم إلى استعادة موقعه كسلطة معنوية لا غاية لها سوى المصلحة العليا للوطن.. ورغم تلويح البعض بالاحتراز على دور «الحوار الوطني» مُعتبرينه بمثابة البرلمان الموازي، فإنه لا مناص من اللجوء إلى حكمة أعضائه ووطنيتهم للإسهام في تلافي حرائق المصالح الضيّقة لبعض الفئات وذلك مهما يكن اسم السّاكن الجديد لقصر قرطاج... إن لتونس حقّا على الجميع وعلينا ألاّ نبدّد مكاسب الثورة أو أن نرهن مستقبل أبنائنا بسبب نزواتنا وغبائنا السياسي لا قدّر الله!...