16 مليارا لحماية المرفأ المالي من الفيضانات و17 ألف موطن شغل لمرحلة الإنجاز هل يطالب المستثمرون بيد عاملة أجنبية ؟ كيف ستتحول «الحسيان» بأريانة إلى مدينة عالمية بكلفة 8 آلاف مليار؟ تحقيق: فؤاد العجرودي مازالت المشاريع الخليجية الثلاثة العملاقة حبيسة «الثلاجة» منذ نحو خمس سنوات وتكاد تخلف انطباعا بأنها رحلت بلا رجعة لولا زخات الأمل القادمة من منطقة «الحسيان» الواقعة على «الشريط الحدودي» بين روادوقلعة الأندلس الواقعتين شمالي العاصمة تونس. كنا اثنين ثالثنا السائق «رمزي» توغلنا أميالا على طول الطريق بين برج الطويل والحسيان..توقف فيها الحديث مع معتمد رواد ورئيس نيابتها الخصوصية «محمد شوقي الباهوري» عدة مرات بفعل سيل المكالمات الذي كان يتهاطل على محدثي من حين إلى آخر... رغم أنه كان يوم عطلة.. عيد الشهداء الذي توافق مع ذكرى ميلادي الخامسة والأربعين. رحابة صدر كان محدثي يفض مشكلا.. ليواجه آخر كحال البلد بأسره الخارج لتوّه من غرفة الإنعاش... والذي يحتاج إلى نفس طويل وكثير من العزم و«رحابة الصدر» معا لجهة الميراث الثقيل.. أربع سنوات من السبات العميق ونقطة الى السطر. أغرب ما صادف محدثي يومها أنه ما إن تدخل لفض مشكل تراكم المياه المستعملة في أحد الأنهج الواقعة بمنطقة رواد... حتى علم أن السكان رفضوا هذا الحل الظرفي ومنعوا المقاول من الإشتغال مطالبين بحلول جذرية في التو والحين قبل أن تنضم إلى صفهم التراتيب البلدية وتحجز «ماعون» المقاول «جذريا» .. ليضطر المعتمد إلى حل مشكل ثان في عقر بيته.. أو نيران صديقة كما يقال... وفيما لم يرض السكان بالحل الظرفي كنا نعاين أشغال انجاز حوض تجفيف المياه في الأمتار الأخيرة للحدود الترابية لمنطقة رواد... والذي يعد أحد مكونات «محطة التطهير العملاقة» التي ستتوغل نحو ستة أميال في مياه البحر. 210 مليارات هي كلفة هذه المحطة التي ستقضي نهائيا على معضلة تصريف المياه في جهة رواد التي نبتت العديد من أحيائها كالفطر وبنيت كما اتفق في إطار ذالك الشريط الدرامي الطويل والكثيف.. البناء الفوضوي الذي يغتال في هذا البلد نحو 700 هكتار سنويا ومازال على ما يبدو متأثرا بدوي الرصاص ذات يوم من بداية ستينات القرن الماضي عندما ازالت الحكومة مساكن بدائية في منطقة «برج علي رايس» المتاخم لمقبرة الزلاج.. بل إن هذا الملف يبدو بمثابة أحد «المكاسب الحضارية» للبلاد منذ الاستقلال تماما كرفيق دربه «الانتصاب الفوضوي». أشغال على قدم وساق كانت تلك «الطرادة» قوسا فتح واغلق بسرعة وأنا أستحضر مشهد المياه المستعملة التي أبت إلا أن تدلو بدلوها في المسار الثوري المجنون ويصبح تدفقها على الأسفلت بمثابة القاعدة وسيلانها في الأنابيب استثناء.. في المناطق الشعبية والراقية على حد سواء. هنا في هذه النقطة ودعني محدثي احتراما لحدوده الإدارية لأواصل الرحلة إلى «الحسيان» حيث لاحت من بعيد بعض ملامح الحياة بين الغبار المتناثر حول عجلات الآليات وأقدام العمال... وأزيز محركات السيارات التي كانت تعبر من حين لآخر ذاك الطريق الضيق الموصل للبحر. هنا بدأ «الاستثناء الخليجي» مشروع المرفأ المالي الذي يفترض أن تنجزه مجموعة بحرينية بتمويل من بيت المال الخليجي لم يركن في «الثلاجة» خلافا لمشروعي «سماء دبي»و«تونس سيتي»... 16 مليار وضعت على الأرض... مبلغ ضئيل مقارنة بحجم المشروع لكن امتلاء الكأس يحتاج الى قطرة ماء أولى تعطي انطباعا بأنه لا تعوزنا «الجدية». وهي مسألة بالغة الأهمية لاشتغال الجانب التجاري مختزلا في استقطاب المستثمرين وضبط الهيكلة المالية. تحدثت قليلا إلى رئيس حضيرة الأشغال التي تديرها مؤسسة «صوروبات» التي تكفلت بإنجاز القسط الأول من الأشغال التحضيرية... مشروع حماية المرفأ المالي من الفيضانات... الذي سيعقبه بسط الطرقات ومد شبكات الماء والكهرباء والتطهير والتنوير العمومي.. وبناء الأرصفة.. وغراسة الأشجار... إلخ.. بعدها توغلنا في «حرم» المرفأ المالي الذي سيمتد على أرض شاسعة تمسح 546 هكتارا.. فيها نزر قليل من الأراضي التابعة للمجال الترابي لجهة رواد فيما البقية تنتمي ترابيا الى منطقة قلعة الأندلس.. أحد معاقل «الموريسكيين» في تونس الذين اختاروا تربة الفاتح «طارق بن زياد» بعد سقوط «غرناطة» أواخر القرن الخامس عشر ميلادي، سقوط كان بداية منعرج في التاريخ الاسلامي وصراع الشرق والغرب انتهى إلى تلك «الصدمة الحضارية» التي صنعتها غزوة »نابليون» لمصر المحروسة بدايات القرن التاسع عشر.. بعد أن اختطف الغرب زمام «العلم» من العرب. لكن تلك البقعة تعود اليوم الى العرب بعد ست عقود بدت فيها الاستثمارات العربية في تونس «شحيحة» مقارنة بسيل الأستثمارات الغربية التي أنشأت نحو 3 آلاف مؤسسة تشغل نصف مليون تونسي بل إن مشروع المرفأ المالي قد يكون بمثابة «صك غفران» ل «تقصير» العقود الستة.. وهو الذي سيقيم استثمارات ضخمة تناهز 6 مليارات من الدنانير.. 6 آلاف مليار من المليمات بحساب التونسيين كما ينتظر أن يوفر 17 ألف موطن شغل في مرحلة الانجاز. بنوك ومؤسسات تأمين عالمية.. فنادق من الجيل الجديد التي نشاهدها على شاشة التلفزة.. مسارح.. مراكز تسوق... بورصة.. ملاعب صولجان.. شركات استثمار، مركبات رياضية، شقق فاخرة لشريحة أصحاب المليارات.. وثلاثة موانىء تجارية ورابع تجاري... هي أبرز مكونات هذا المشروع العملاق الذي قد يكون الخطوة الأولى لتشكل «دبي المتوسط» هنا في الخليج تونس. «تونس عاصمة للمؤتمرات والأعمال» تحتاج فقط إلى بضع من هذه المشاريع الضخمة لتكتمل الصورة في هذا البلد الذي راكم مكاسب عظيمة منها ال 700 فندق وأسطول المطارات والموانىء.. بعد «الحسيان» بدأت رحلة استقصاء أسباب تقوقع العملاقين الآخرين منذ نحو خمس سنوات في ذات الحلقة المفرغة وأعني «سماء دبي» على ضفاف بحيرة تونس الجنوبية ومدينة تونس الرياضية أو «تيونس سبورت سيتي» في الضاحية الشمالية للعاصمة والاثنان كان يفترض أن تنجزهما مجموعة «أبو خاطر» الإماراتية. ما حكاية الاستيطان؟ استحضرت في هذا الإطار تلك العبارة التي رجت «مجلس النواب» في آخر عهد بن علي لدى مناقشة بنود الاتفاقية بين الحكومة التونسية والمجموعة الإماراتية... والتي أطلقها نائب وصديق عن حركة التجديد قالها بالحرف الواحد «إن هذه الاتفاقية تؤسس لاستيطان أجنبي» منتقدا بشدة إعطاء المستثمر حق البيع للأجانب والتفويت في الأرض بالدينار الرمزي.. وهو انتقاد استمد جذوره من عدم تعود تونس على منع مثل هذه الامتيازات للأجانب فيما تلك الامتيازات تعد الحد الأدنى مقارنة بما تمنحه بلدان أخرى لاستقطاب رأس المال الأجنبي. وبدا واضحا آنذاك أن الحكومة وافقت على تلك الاتفاقية وهي واقعة بالخصوص تحت ضغط شبح البطالة.. فأشغال مختلف مراحل مشروع «سماء دبي» مثلا كانت ستوفر نحو 50 ألف موطن شغل. بعد حصول تلك المشاريع على تأشيرة البرلمان وتدشين المقر الرئيسي ل «سماء دبي» التي تغير اسمها لاحقا ووضع حجر الأساس لمدينة ضخمة كانت ستمتد على نحو 9 آلاف هكتار على ضفاف بحيرة تونس الجنوبية.. بدأت تتراجع جذوة الحماس تدريجيا إلى أن دخل المشروع في سبات عميق وربما بدأ يلج إلى غياهب النسيان. اتصالات مكثفة وفي هذا الإطار أسرت مصادر مطلعة ل «التونسية» أن كلا المشروعين تعطلا بسبب عوامل كثيرة تصُب في اتجاه أن مجموعة «أبو خاطر» ليس بمقدورها ماليا أن تنجزهما في الوقت الراهن أو على الأقل بمفردها. وقد يكون هذا التشخيص وراء مشاورات ومساع مكثفة أطلقتها الحكومة مؤخرا لإعادة إحياء هذا الملف وبحث كل الحلول الملائمة بما في ذلك تشخيص بدائل استثمارية مع البقاء دائما في «الدائرة الإماراتية». بديل اماراتي بمعنى آخر أن أول الحلول المطروحة في حال عدم تمكن «مجموعة أبو خاطر» من إنجاز المشروعين هو البحث عن مستثمر جديد إماراتي يتكفل بالانجاز . كما لا يستبعد أن تدخل أطراف تونسية على الخط لينجز المشروعان في إطار الشراكة التونسية الإماراتية مع عدم إلغاء إمكانية اللجوء الى سيناريو «تونسي تونسي». مصادرنا تحدثت بنبرة فيها الكثير من الواقعية والتفاؤل وهو ما يعني أن الحكومة تدرس هذا الملف من منطلق الوعي بضرورة التوصل الى نتائج فعلية في كل الأحوال. مسائل أخرى وفيما اقتصر الحديث عن المعوقات الى حد الآن على الجانب المالي فإن الحجم الضخم للمشروعين قد يواجه مجادلات حول مسائل أخرى مثل مسألة اليد العاملة أي مدى استعداد تونس لمنح التأشيرة لتوظيف يد عاملة أجنبية جزئيا.. وهو ملف بدأ يلقي بظلاله على مناخ الأعمال في تونس وربما يتحول قريبا الى مسألة حاسمة في تحريك الاستثمار الداخلي والخارجي الى جانب معوقات تشريعية وإدارية أخرى.