يبدو أن خطابي الرئيسين المرزوقي والجبالي في عيد الاستقلال كانا فرصة للسلطة كي تمد يديها إلى بقية الطيف السياسي المعارض ومؤسسات المجتمع المدني في محاولة منها التخفيف من حدة الاحتقان الذي عرفته العلاقة بين كل الأطراف. فمن أزمة مع اتحاد الشغل كادت تتحول إلى صدام مرورا بحكاية «المؤامرة» وصولا إلى «واقعة» العلم وتدنيس المصاحف عاشت البلاد على شبح فتنة اختفى بدعوات التعقّل والتوحّد. فإلى أي حد نجح المرزوقي والجبالي في إيصال رسالتيهما وأي الوسائل التي سيستعملانها لتجسيم هذا الانفتاح على كل الطاقات خارج السلطة؟ سنبدأ بالخطاب الأول زمنيا، حاول رئيس الوزراء أن يكون جامعا لكل الفئات مستعملا لغة يفهمها المواطن البسيط قبل السياسي، مؤكدا على وفاء الحكومة في برامجها لمطالب الثورة ، باسطا يده للمعارضة من أجل بناء تونسالجديدة دون إقصاء لأي أحد من أبنائها . لقد نجح الجبالي في التوليف بين العاطفي والعقلاني: العاطفي هو الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، والعقلاني هو «الاستقلال» الثاني وهي ثورة الكرامة والحرية، وإن بأخطاء «لامرئية» . ففي حديثه عن الروح الفدائية الكبيرة التي تحلى بها الزعماء في مقاومتهم للمستعمر الفرنسي، لاحظنا عدم ذكره لأي اسم من هؤلاء ولا نفهم سببا في ذلك خاصة وأن ذكرهم على اختلافهم سيكون دليلا على خطابه الجامع؟ صحيح أن هذا التأويل قد لا يفهم من العامة التي لا تعرف تفاصيل الأمور ، لكن ذكر أسماء الزعماء كان يمكن أن يبعث برسالة واضحة للعائلات السياسية قد تساعد الجبالي على بناء جسر حوار وثقة ينتظرها الشعب منذ فترة طويلة لاستعادة الاستقرار «الشارعي» الذي سيسمح بدوران العجلة الاقتصادية والسياسية في آن واحد. النقطة الثانية اللافتة للانتباه وقد نجح فيها رئيس الحكومة بامتياز، هي وضوحه في تصور البناء الدستوري الجديد بقوله «إننا بصدد إعادة تأسيس الدولة التونسية من جديد عن طريق دستور (...) دون استئثار طرف واحد بهذه المهمة» وهذه الإشارة الايجابية لابد حسب اعتقادنا أن تقابل بلغة وخاصة بأفعال في نفس الاتجاه الايجابي الجامع من طرف المعارضة، لا أن يقع تلقيها باعتبارها دليلا على ضعف الحكومة وتخبطها بما أجبرها على هذا الخطاب الداعم للحوار والنقاش. تأكيدا لهذا الطرح ، أكد الجبالي في رؤيته لهذا الدستور وفي حديثه عن تونسالجديدة «هويتها ونظامها الديمقراطي خارج التجاذبات». لكن ذلك لن يكون «قرصا» مهدئا للطبقة السياسية إلا متى سارت حركة النهضة – وهو أمينها العام – ذات المسار وخاصة بوضوح يضاهي كلامه . فما قاله الجبالي فيه تأكيد على مدنية الدولة خارج التجاذبات الحالية بين الشريعة واللاشريعة. فلماذا تحاشى اللفظ المباشر وهو الدولة المدنية مع أنه أعطى تعريفها ؟ . وهذا الموقف يعيدنا إلى موقف الصحبي عتيق رئيس لجنة التوطئة للدستور في الجلسة الأولى بتحاشيه التطرق المباشر للشريعة مع تأكيده على ضرورة أن يكون الدستور مستمدا من روح وقيم الإسلام السمحاء، لنراه مرة أخرى (الصحبي عتيق مع الحبيب اللوز) يقول في جمعة «الشريعة» إن كل من يقف ضد الشريعة هو ضد مطالب الشعب! ولعل الرسالة الأهم في خطاب رئيس الحكومة هي دعوته الأغلبية التي ينتمي إليها، إلى التواضع ومد اليد للمعارضة ولكل الآراء المخالفة حتى تنجح المرحلة. في هذا الإطار سيكون مطالبا باتخاذ خطوات عملية تؤكد هذا التمشي ، وستكون الأقلية مطالبة بحسن النية قبل اتخاذ المواقف الانفعالية ونكاد نقول الصدامية. وفي تطرقه لقانون المالية التكميلي ، وبخلاف المسائل التقنية البحتة ، حاول الجبالي التأكيد على أن الأهداف الرئيسية لهذا القانون هي الوفاء لمطالب الثورة وكأنه يرد بصفة غير مباشرة على ما جاء في البيان التأسيسي لجبهة 14 جانفي التي أعلن عنها رسميا يوم الأحد الفارط (والذي للتذكير يتهم الحكومة بالالتفاف على الثورة وخيانة مطالبها) لذلك حدد الأهداف وهي تحديات كشفت عنها الثورة على حد تعبيره. ومع كل رسائله للطبقة السياسية، لم يتغافل الجبالي عن مكونات المجتمع التونسي من عمال ومدرسين وإدارة والمؤسسة العسكرية والأمنية باعثا بخطاب مطمئن ورغبة جادة في صنع المستقبل مع الاستنارة بانجازات زعماء الاستقلال. أما خطاب رئيس الدولة فإنه لم يشذ عن مبادئ المرزوقي الحقوقية في تعاطيه مع الشأن السياسي وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد. فإضافة إلى أسلوبه الجامع، كان مباشرا في رسائله بما قد يشجع الأطراف الأخرى وخاصة المعارضة إلى الرد عليها (الرسالة) والتعاطي معها بكل ايجابية وهذا ما سيتيح عودة الاستقرار السياسي والأمني. كما أنّ مبادرته بتكريم عائلتي الزعيمين «اللدودين» بورقيبة وبن يوسف تؤكد تمسكه بخلفيته الفكرية التي تنتصر للوفاق. على أن الخافي من هذه المبادرة هو مروره غير المعلن إلى المصالحة. صحيح أنها تمس فترة زمنية سابقة ولكنها تعطي إشارات ايجابية للمرحلة الحالية قد تعجل بوضع آليات العدالة الانتقالية بما يسرع المحاسبة فالمصارحة وأخيرا المصالحة. وفي ذلك طمأنة حتى للمتهمين المفترضين (في انتظار كلمة القضاء) من رجالات نظام المخلوع في محاكمة عادلة بعيدة عن التشفي والانتقام. والواضح أن المرزوقي تأقلم نهائيا مع جبّة رجل الدولة بأن أخذ مسافة عن مواقفه السابقة من بورقيبة حتى أنه وصفه بالزعيم مشيرا إلى قيم الرجل في الوطنية والتحديث، ولعل قراءته للمشهد السياسي أثبتت له وجود طيف شاسع يؤمن بقيم البورقيبية ولا يمكن تجاهل تواجده كعنصر مؤثر في الساحة، لذلك كان لابد من استيعابه وإدخاله اللعبة الديمقراطية في إطار احترام القانون. في هذا الإطار نعتقد أن الأحزاب البورقيبية ستتفاعل مع هذا الموقف لأنه نزع عنها كل تخوفات العمل العلني. واستعماله المباشرتية في خطابه جعل المرزوقي قوي العبارة مع مرونة في تفسيرها. فتأكيده على الدولة المدنية لا جدال فيه، لكن وقوفه في إطار القانون ضد متطرفيها (الرافضون للهوية العربية الإسلامية) كما وقوفه ضد المتطرفين الاسلامويين، كان مفسرا لمفهوم الدولة المدنية عنده بما يبعد نهائيا أي تأويل «مشبوه» لمقاصد كلامه. ومع عدم الاختلاف الجوهري للرئيسين في محاولة تجميع كل التونسيين فإن المرزوقي «تفوق» على الجبالي في إيصال هذه الفكرة خاصة في دغدغة عواطف العامة دون سقوط في الشعبوية. من ذلك، الاعتذار الذي قدمه الرئيس باسم الدولة لكل تونسي ناله الظلم منذ تاريخ بناء الدولة إلى اليوم وهو اعتذار لم يكن مجبرا على تقديمه كرئيس باعتبار هذه الأحداث سابقة لفترة حكمه. هذا الاعتذار يزيد في مصداقية إرادته في إنجاح المسار الديمقراطي لدى الرأي العام بما في ذلك خصومه السياسيين. وخلاصة القول إن الرئيسين نجحا – مع أن المناسبة كانت بروتوكولية بالأساس - في صياغة خطابين مطمئنين «توأمين» إلى حد بعيد ويبقى مرورهما من الخطاب إلى تفعيل المضامين هو المحدد الأساسي في تأكيد أو تفنيد الإرادة الصادقة (أو المخاتلة) للسلطة في سعيها نحو تحقيق أو على الأقل الشروع في تحقيق بعض أهداف الثورة مع خلق حالة من التوافق السياسي والشعبي حتى مع من خالفها الرأي والتمشي ، وهذا يتطلب نفس الإرادة الصادقة من الضفة الأخرى بعيدا عن الحسابات الضيقة.