اختار السيد محمد المنصف المرزوقي الرئيس المؤقت للجمهورية التونسية ان يضع البرنص على كتفيه وهو يؤدي اليمين لتسلم منصبه، ورغم ان هذا التقليد يعتبر مشهدا مألوفا في الجنوب التونسي حتى ان البرنص «يعتبر زينة الرجال» فإنّ ظهور أوّل رئيس للجمهورية التونسية بعيد ثورة 14 جانفي به، يحمل من الدلالات ما يدفعنا إلى قراءة المشهد جيدا واعتباره مؤشرا رمزيا وسيمائيا لفهم الخلفية الثانوية في لا وعي هذا الرجل وهو يصرّ على الظهور امام الرأي الوطني والعالمي معتزا بهذا الزي التقليدي وما يعكسه من ايحاءات لعل أوّلها: تموضع هذا الرجل في القلب من حضارته العربية الاسلامية بما تعكسه من خصوصية ثقافية تونسية تعدّ اكثر تعبيراتها تجذرا في الدواخل التونسية التي بقيت خزانا لا ينضب ومعينا لا يتوقف لهذه الثقافة ضدّ كلّ محاولات التغريب والانبتات. ثانيها: اعتراف هذا الرجل الضمني والمصرّح به عن إنحيازه لابناء الشعب في الدواخل الذين كان لهم الفضل في تفحيل الثورة ب 17 جانفي يعدّ انتصارا لهذا المطلب الذي ما انفك ابناء سيدي بوزيد يصرون عليه بحكم انّ الاعتراف بالشهداء وتكريمهم يستدعي التأريخ للثورة بتاريخ انطلاقة شرارتها الاولى المتمثلة في اقدام الشهيد محمد البوعزيزي على احراق نفسه في مشهد احتجاجي مهيب. ثالثها: تكريم للثوار المنسين من سكان الدواخل اليوسفيين الذي بخسهم التاريخ للحركة الوطنية حقهم رغم ل التضحيات التي قدموها في سبيل استقلال هذا الوطن ودحر قوى الاستعمار، فكان نصيبهم من دولة الاستقلال السجون والمنافي والتهميش والتفقير المتعمد من خلال منظومة تنموية غير عادلة. رابعها: القطع مع القدر المديني الذي احتكر الحكم والسلطة وحكم على أبناء الدواخل ان يتحولوا الى هامش اجتماعي يمدّ البلاد بالطاقات الثورية التي تقدّم أرواحها على مذبح الحريّة والكرامة زمن التحولات الكبرى وتستثنى من نصيبها في الثورة والسلطة وتبقى طي النسيان. غير انّ هذه العناصر الرمزية والايحائيّة التي برزت وتخللت المشهد التاريخي الذي رافق اداء القسم الدستوري للرئيس المؤقت للجمهورية التونسية من قِبل السيد المنصف المرزوقي، لم تخْلُ من رسائل سياسية واضحة وجَليّة استبطنت كل الهواجس والتخوفات التي رافقت الانتخابات المجلس الوطني التأسيسي وصعود نجم الاسلاميين. وأول هذه الرسائل تلك المتعلقة بتأكيد الرئيس المؤقت علي مدينة الدولة وديمقراطية مقوّضا بذلك تخميرة الخلافة السادسة التي بشّر بها السيد رئيس الوزراء حمّادي الجبالي في الاحتفالية الربانية التي نظمتها النهضة بمدنية سوسة. وثاني هذه الرسائل تمثلت في الخطاب النقدي البناء الذي قرأ من خلاله المرزوقي تاريخ تونس الحديثة خلال الحقبتين البورقيبية والنوفمبرية وتأكيده على ان علّة النظامين السابقين تلخصت في غياب التحديث السياسي والتوازن الاجتماعي متمثلين في ارساء نظم ديمقراطية تحترم الحقوق والحريات وتكرس نموذجًا تنمويًّا يقوم على العدالة الاجتماعية، ولكنه وفي نفس الوقت نوّه بالمكتسبات الاجتماعية وخاصة مجلة الاحوال الشخصية التي ارست حقوق المرأة والمساواة بينها وبين الرجل، والتعليم الحداثي الذي نجح في تخريج جيل من المثقفين وارساء ثقافة نقديّة. ثالث هذه الرسائل المهمّة فكانت للمعارضة التي تبلورت خلال مداولات مناقشة المشروع المؤقت لتنظيم السلط العمومية بالمجلس التأسيسي حين اكد في خطابه على الدور الايجابي للمعارضة في ارساء نظام سياسي تعددي يقطع مع العقلية الفردية وحكم الحزب الواحد. اما الرسالة الرابعة التي برزت في خطاب السيد المنصف المرزوقي فانعكست في موقفه من المتغيرات التي تعصف بالمنطقة حين عبّر عن مساندته للحراك السياسي في كل من ليبيا وسوريا واليمن وربطها بما يحدث في فلسطينالمحتلة واصفا الحراك بكونه نضالا ضدّ الاستعمار الداخلي والخارجي مسويّا بين الانظمة القريبة الحاكمة والكيان الصهيوني العنصري البغيض وهوما يعتبر مماهاة متعسفة تعكس مواقف الجماعات الاخوانية الاسلامية اكبر المستفيدين من هذه التحولات خاصة مع صمته المقصود عن التدخل الاجنبي واصراره على تقويض هذه الانظمة خدمة لاجنداته ومصالحه وهو ما تجلى في الحالة الليبية التي افردها الرڈئيس المؤقت برسالة خاصة. لكن الايحاءات الرمزية والرسائل السياسية التي تضمنها الخطاب لم تَخْلُ من بعض الهنات والسقطات التي تناولها عديد المثقفين والقوى السياسية بالنقد ومنها تلك اللفظة الناتئة على أديم النص عند توصيفه للمرأة التونسية في سياق حديثه عن حقوقها »بالمنقبة والمحجبة والسافرة» فلفظة «سافرة» تحمل شحنة دلالية سلبية تحيل على مفهوم أخلاقي يعبّر عن تصورات فقهيّة لا يوجد حولها اجماع في الساحة الوطنية وهي ذات المرجعية الدينية التي تلبست بخاتمة الخطاب حين تقمّص المرزوقي دور الامام والواعظ بالدعاء من على منبر المجلس الوطني التأسيسي وكأنه في منبر جامع وهو يردد «اللّهم... اللهم» ومن ورائه نوّاب النهضة يرددون «امين... امين...» سنكتفي بهذا القدر في قراءتنا لخطاب السيد المنصف المرزوقي الرئيس المؤقت للجمهورية التونسية مؤكدين احترامنا لشخصه مناضلا سياسيا وحقوقيا ورئيسا مؤقت أوّل للجمهورية الثانية ولكننا سنحتفظ بمسافة نقدية لكل ما يصدر عنه من مواقف او قرارات او أفعال.