بقلم الدكتور أحمد القديدي (سفير تونس السابق في الدوحة) تضارب واضح في التصريحات بين السيدين نورالدين البحيري وزير العدل وعدنان منصر الوزير المستشار لدى رئيس الجمهورية حول قضية حساسة وشائكة تتعلق بتسليم أو عدم تسليم السيد البغدادي المحمودي آخر رئيس حكومة لدى العقيد القذافي أو هو ربما تضارب مقصود بين التصريحات لكنه غير مفهوم ونحن لا نعلم سره ! المهم ليس هذا بل الأهم في القضية هو أن تونس الثورة غير تونس الاستبداد وهي دولة حق وقانون تفضل الأخلاق على الصفقات وتبجل المبدأ على ضروريات الظرف الراهن. وأنا أرجو أن يستعمل الدكتور منصف المرزوقي ما لديه من صلاحيات لينقذ رجلا لجأ إلى بلادنا بعد أن وثق في رجالها وفي مؤسساتها دون أن ندينه مسبقا. وأنا لا أعرف السيد البغدادي لكني أعرف أن ليبيا الشقيقة لها ملابساتها الخصوصية بها ولم تخرج بعد من حالة الثورة إلى مرحلة تقاسم المهام الدستورية ونزع سلاح الميليشيات وتنازع القبائل إلى درجة أن سيف الإسلام المقبوض عليه والمقطوع الأصابع مايزال يقبع في سجن الزنتان وليس في سجن دولة. والعالم بأسره رأى كيف انتهى القذافي وبعض أولاده ومساعديه في مسلخة لا تليق بكرامة العربي المسلم مهما كانت جرائم نظام العقيد. ثم إني أذكر الرئيس المرزوقي بلجوء والده المناضل الوطني الصامد إلى مراكش وقد عاش فيها آمنا ولم يسلمه الملك المرحوم الحسن الثاني لنظام بورقيبة وقد عرفت هذه الحقائق من فم ابنه المنصف وهو الذي ردده للملك محمد السادس معترفا للمملكة المغربية بجميل إجارة المستجير حين يستجير، كما أن الأخ المنصف يعرف فضل الدستور الفرنسي الذي وفر لنا جميعا من مختلف أطيافنا ملجأ أمينا حين طاردنا نظام بن علي عقودا وأطلق وراءنا منظمة أنتربول بوصفنا إرهابيين ومتطرفين وأكلت صحافة الجريدي لحمنا حيا. أنا بالطبع لا أشبه أحدا بأحد وليس البغدادي مناضلا سياسيا ولكنه نفس بشرية تستحق من تونس أن لا تسلمه للشقيقة ليبيا إلا بعد أن تكتمل منظومة الدولة ومقومات العدالة المستقلة. ولا أعتقد أن السيد عبد الرحيم الكيب عندما زارنا قدم لنا الحجة الدامغة بأن السلاح تم جمعه من شباب القبائل وأن المحاكم المدنية انتصبت للقضاء في مناخ من الطمأنينة والسلام وراحة الضمير بل إن الأخبار تؤكد أن وضع الحكومة المؤقتة ذاتها مايزال هشا بعد أن أحاطت بمقرها ميليشيات مسلحة منذ أيام كما أحاطت غيرها بمقر المجلس ورئيسه مصطفى عبد الجليل. إن حياة رجل واحد هي أمانة في عنق المرزوقي وبالتالي في عنق تونس. وقد عشت من قبل ظروفا مرت على تونس شبيهة جدا بظروف اليوم وعالجها الزعيم بورقيبة حين كان في عنفوان السلطة بحكمة وترفع رغم ما لديه من أخطاء. ففي سنة 1958 قام عبد الكريم قاسم بانقلابه على الملك فيصل ورئيس حكومته نوري السعيد ونصب محكمة عسكرية يرأسها عباس المهداوي لتحكم بالإعدام على الوزراء ومنهم وزير الخارجية ورئيس الحكومة السابق المربي الأستاذ الجامعي محمد فاضل الجمالي الذي وقعت بيديه وثيقة ميلاد منظمة الأممالمتحدة عام 1945 وكان صديقا للزعيم بورقيبة في منفاه. وأودع الجمالي السجن الرهيب منتظرا حبل المشنقة وتمت دعوة الرئيس بورقيبة لمؤتمر في بغداد سنة 1959 فرفض الدعوة وبعث الرفض مع الشيخ المختار الخضراوي الذي زار بغداد في رحلة صحفية وكلم الرئيس قاسم مباشرة وهو نفسه الذي قص علي هذه القصة وأبلغه اشتراط بورقيبة أن يعفو الرئيس قاسم على الجمالي وبالفعل كان له ذلك وحل محمد فاضل الجمالي بتونس ليدرس بالجامعة التونسية وجمعتني به رحمه الله صداقة طويلة في تونس وإلى يوم الناس هذا يذكر العراقيون بألف خير جميل تونس التي خيرت أخلاق المروءة على منطق مصلحة الدولة. أنا أعرف أغلب مسؤولي الحكومة الراهنة وبعض رجال معارضتهم منذ أن كان معظمهم في المنافي واقتسمنا لقمة العيش الصعبة رغم اختلاف مواقفنا التي لا تفسد لودنا قضية وأثق في أنهم اليوم أمام قضية حق وعدل سيتخذون الموقف الصحيح الذي تمليه عليهم مبادؤهم فلا يسلموا رجلا أيا من كان لسلطة ما تزال قيد الإنشاء أيا كانت الدولة المطالبة. فالله سبحانه قبل التاريخ وقبل الشعب وقبل الضمائر هو الذي يفرق بين الحق والباطل وهو الذي عصم دماء الناس من أن تسفك بغير حق. وأنا لا أرضى أن يسفك دم رجل واحد لا قدر الله ويتحمل سفك دمه ولاة أمورنا وهم الذين جاهدوا وضحوا من أجل ألا تسفك قطرة دم بغير حق وبغير فساد في الأرض.