يشرع اليوم حوالي 129 ألف تلميذ وتلميذة في اجتياز اختبارات امتحان شهادة الباكالوريا والتي تدوم إلى غاية الأربعاء القادم. ولشهادة الباكالوريا قيمة رمزية كبرى في كافة المجتمعات رغم فقدانها للبعض من قيمتها في السنوات الأخيرة. فهي الشهادة التي تفتح الآفاق أمام حاملها للارتقاء في مدارج العلم والمعرفة وللحصول على شهائد عليا تمكّنه من الدخول في الحياة المهنية بثقة واقتدار و بالتالي فقد كانت و إلى أمد غير بعيد تمثّل نوعا من «المصعد الاجتماعي» خاصّة بالنسبة لأبناء العائلات الفقيرة لأنّها كانت تؤهّل حاملها للحصول على وظيفة في الدولة. ويرى العديد من الملاحظين من بين الأسرة التربوية بالخصوص أنّه لا يمكن مقارنة قيمة الباكالوريا خلال الستينات والسبعينات لمّا كان اجتياز هذا الامتحان عبارة على مباراة لا يتفوّق فيها إلا المتميّزون من التلاميذ و لمّا كان بإمكان حاملها التسجيل في أيّ اختصاص يريده ومزاولة تعليمه في أيّة مؤسسة جامعية يختارها قبل اعتماد نظام التوجيه الجامعي بداية من سنة 1976 ، وبين باكالوريا اليوم التي صارت تشكّل هاجسا بالنسبة للتلاميذ و أوليائهم إذ أنّه لا قيمة للنجاح في هذا الامتحان إذا لم يقترن بالحصول على معدّل مرتفع حتى يتمكّن الناجح من اختيار المسلك الذي يرغب فيه. لنترك الخوض في هذه المسائل لأهل الذكر لدراستها وتقييمها ونلقي لمحة تاريخية على هذه الشهادة. يعود أوّل تاريخ للباكالوريا كشهادة علمية تتوّج سنوات الدراسة بالتعليم الثانوي إلى سنة 1808 بفرنسا لمّا أصدر الإمبراطور «نابليون بونابرت» أمرا يتعلّق بتنظيم هذه الشهادة و اعتبارها «رتبة علمية». أمّا في تونس فقد تم اجتياز أوّل امتحان الباكالوريا سنة 1891 أي 10 سنوات بعد دخول الاستعمار الفرنسي واستمر الحال كما هو عليه إلى غاية سنة 1956 كان خلاله عدد التلاميذ التونسيين أو المسلمين المجتازين لامتحان الباكالوريا يعدون على الأصابع إذ لم يتجاوز عدد الناجحين 123 فيما بين 1891 و 1918 وفي سنة 1927 لم ينجح إلا 27 تلميذا، وفي سنة 1938 بلغ عدد الناجحين 58. ويوم 31 ماي 1957 تم إجراء أوّل امتحان لشهادة الباكالوريا في نسخته التونسية، شارك فيه 1900 مترشح منهم 1400 من ولاية تونس وحدها والبقية موزّعون على بقيّة الولايات و قد ناهزت نسبة النجاح 30 بالمائة حيث تمكّن حوالي 600 مترشّح من الحصول على الشهادة وتحصّل 50 منهم على ملاحظة «حسن جدا». وكانت الامتحانات تجرى في دورتين أو ما كان يسمى آنذاك بالجزء الأوّل Première partie في نهاية السنة الخامسة من التعليم الثانوي و الجزء الثاني أو Deuxième partie في نهاية السنة السادسة من التعليم الثانوي، ويخوض الناجحون في الاختبارات الكتابية اختبارات شفاهية في جميع المواد العلمية والأدبية. وعلى إثر التمديد في مسلك التعليم الثانوي من 6 إلى 7 سنوات أصبحت الباكالوريا تجرى في نسخة واحدة مع المحافظة على الاختبارات الشفاهية بالنسبة للناجحين في الكتابي الذين يتمّ تجميعهم في ثلاثة مراكز كبرى بتونس و سوسة وصفاقس قبل أن يقع إلغاء الشفاهي سنة 1976 وتوحيد الشهادة بعد أن كانت منقسمة إلى باكالوريا فرنسية و باكالوريا عربية. وقد تمّ إدخال عديد التعديلات على امتحان الباكالوريا فبعد أن كانت تقام في دورتين الأولى في شهر جوان والثانية في شهر سبتمبر، حيث يجتاز المؤجّلون جميع المواد، تمّ تعويض الدورة الثانية بدورة تدارك تجرى اختباراتها أيّام قليلة بعد إعلان نتائج الدورة الأولى و يختبر المترشّحون أساسا في المواد التي لم يحصلوا فيها على المعدّل، كما تنوّعت اختصاصاتها لتصبح على ما هي عليه الآن منقسمة إلى 7 اختصاصات : رياضيات، علوم تجريبية، تكنولوجيا، اقتصاد، إعلامية، آداب و رياضة. و شهدت سنة 2002 الشروع في احتساب نسبة 25 بالمائة من المعدّلات السنوية للمترشّحين ممّا ساهم، حسب عديد المختصين، في ارتفاع نسب النجاح والتقليص من قيمة هذه الشهادة حتى أنّ بعض الدول أصبحت تخضع حامل الباكالوريا التونسية إلى تقييم إضافي قبل قبوله في إحدى مؤسساتها الجامعية. وتطوّرت نسب النجاح في امتحان الباكالوريا إلى حدّ أنّها تجاوزت في بعض السنوات 70 بالمائة. وكان للفتيات دوما النصيب الأكبر سواء في نسب النجاح أو في عدد المتفوّقين، وللتذكير فان سنة 2010 شهدت ولأوّل مرة في تاريخ الباكالوريا التونسية حصول فتاة من المعهد النموذجي باريانة على معدل 20 من 20 و هو رقم قياسي يصعب معادلته. وكانت النتائج تعلن بواسطة الصحف اليومية و عن طريق الإذاعة الوطنية و في مراكز الامتحان قبل أن تدخل وسائل الاتصال الحديثة على الخط ( الإرساليات القصيرة والانترنت) لتعوّض هذه الطرق التقليدية التي تضفي نكهة خاصة على عمليّة الإعلان عن النتائج. وللتذكير فإنّ النظام التربوي التونسي شهد ثلاثة إصلاحات كبرى الأوّل كان على يد المرحوم محمود المسعدي توّج بقانون 4 نوفمبر 1958 و الثاني على يد المرحوم محمد الشرفي من خلال قانون جويلية 1991 و الثالث كان مع منصر الرويسي في جويلية 2002. ولباكالوريا 2012 رمزية خاصة فهي أوّل باكالوريا في ظلّ حكومة ما بعد الثورة التي أفرزتها انتخابات 23 أكتوبر 2011 وكلنا أمل بان تكلّل بالنجاح على جميع المستويات وفي جميع المراحل لأنّ في ذلك ما يؤشر لمناخ جديد وواعد.