مع رحيل أخر الرجال الثلاث الذين صادقتهم في الغرب (الفيلسوف المسلم روجي غارودي) ومع رحيل (ميشال جوبير وزير خارجية فرنسا الأسبق) لم يبق حيا ونشيطا سوى المفكر الإقتصادي الأمريكي ومستشار الرئيس الأسبق رونالد ريغن صديقي (ليندن لا روش) وعندما يدلهمّ ليل الأحداث الجسام وتنزل على العالم صواعق مثل هذه التي نحياها، وتهدد المخاطر ذلك الربيع العربي، أطلب بصيص نور من ذكريات شخصية انطبعت في ذاكرتي، وأستعيد مثل شريط الفيديو بعض لقاءات مع رجال صنعوا جزءا من تاريخ الغرب وتاريخ الحوار بين الاسلام والغرب، وظلوا صامدين لم تزعزعهم الدعايات اليمينية المتطرفة ولا الإشاعات الصهيونية الجائرة. جمعتني بهؤلاء الرجال الثلاثة صداقات قديمة أصيلة، حرصت على رعايتها وتنميتها خلال زمن المنفى الصعب، ذلك الزمن القاسي الذي يخذلك فيه من اعتبرتهم ذات يوم اصدقاء ويتفرق من حولك المنافقون الذين جمعتهم بك مسؤوليات سياسية زائلة وأعراض دنيوية عابرة. ولكن ليندن لاروش رجل الاقتصاد الامريكي المعروف والمرشح الاسبق لرئاسة الولاياتالمتحدةالامريكية، وميشال جوبير وزير خارجية فرنسا الاسبق، ورجاء غارودي الفيلسوف الفرنسي المسلم الذي نذر نصف قرن من حياته لخدمة حوار الحضارات وفضح الصهيونية، هؤلاء الرجال الثلاثة يظلون شامخين في ذاكرتي وفي ضميري من ذلك المعدن الاصيل الثمين الذي لا يتغير مع الاحداث، وفي هذه المحنة التي تمر بها حضارة الاسلام، هذه المحنة متعددة الأبعاد: من العراق إلى فلسطين، إلى نذر الفوضى في ليبيا ومصر واليمن مرورا بمحنة سوريا التي لا نرى لها أفق حل إلى تونس التي حققت مكاسب غالية ولكنها تفتقر إلى بعض الأمن واستعادة العافيةو توضيح الصلاحيات لرموز الدولة. استرجعت احاديثي المطولة مع هؤلاء الاصدقاء الثلاثة، وقرأت محطاتها بعيون اخرى مختلفة وانا دائس معكم جميعا ايها القراء الكرام على جمر هذه المصائب أذكر حديثي مع ليندن لاروش في يوم دافيء من أيام نوفمبر 1984، حيث دعاني الى قضاء يوم في «رانشه» بولاية بنسيلفانيا غير بعيد عن واشنطن وكنت في ذلك العهد عضوا بالبرلمان التونسي مقررا للجنة الشؤون السياسية في اواخر عهد بورقيبة وكان بالطبع لاروش كأي سياسي امريكي يريد ان يطلع على مشاغل الطبقة السياسية المغاربية واتجاهات الرأي العام العربي ازاء العلاقات الامريكية العربية، وخاصة قضية فلسطين وتعامل ادارة الرئيس رونالد ريغن في ذلك الزمن مع تلك القضية. وكنت بدوري حريصا على فهم ذلك الجهاز المعقد الذي اسمه امريكا، وكيف يتاح للعرب ايجاد قنوات للتعامل مع الرأي العام الامريكي لانه ذو التأثير الحاسم على مجريات القضية الفلسطينية. وكانت تونس في ذلك العقد من الزمن تأوي جامعة الدول العربية وتستضيف منظمة التحرير الفلسطينية وابو عمار وابو جهاد وابو اياد وابو اللطف وكل القيادة المناضلة فاهتمام ليندن لاروش بما كنت اقوله هو اهتمام طبيعي بالنظر لموقع تونس القوي آنذاك ودورها في بلورة سياسته العربية. قال لي لاروش ونحن نتغدى على مائدته مع زوجته هلجا: «انا اعتقد ان ليس للادارة الامريكية سياسة عربية، فهي منذ دوايت ايزنهاور تستعيض عنها بالسياسة الاسرائيلية .. هذا هو الخطر الكبير الذي يهدد مصالح امريكا على المدى البعيد .. ان البيت الابيض ينظر للعرب بعيون اسرائيلية .. لاحظ مثلا اعتبار ياسر عرفات ارهابيا من قبل ادارة ريغن لا لشيء الا لان اسرائيل تعتبره ارهابيا وأكد لي لاروش أنه كتب مذكرة لريغن و قال له أن عرفات ينتمي إلى أخر جيل فلسطيني يقبل التفاوض وان الجيل الذي سيأتي بعده سيأخذ حقوقه بالسلاح والعنف.. نحن نتوقع ان يتحول جزء من ذلك العنف ليضرب امريكا ذاتها في يوم من الايام.. لأننا لم نستقل بعد عن الرؤية والتصور والانماط والمصالح السائدة في اسرائيل. هكذا تكلم ليندن لاروش منذ ثلاثين سنة. أما ميشال جوبير، وزير خارجية فرنسا ووليد المغرب العربي والقلم المنصف للعرب ولقضية فلسطين، فأذكر حديثه منذ عشرين سنة في مطعم سان فرانسيسكو الذي نلتقي فيه أسبوعيا يحرص كلانا على احترام مواعيدها. قال لي ذات يوم صيفي عام 1996: انني أعجب من العمى السياسي الذي يصيب الادارة الامريكية.. رئيس تلو رئيس. واعتقد ان الجهل هو سبب ذلك العمى وذلك التخبط، فالامريكي المتوسط الذي يضع الرأي العام الضاغط عادة على قرارات الادارة الامريكية هو مواطن محدود المدارك السياسية، ليس لديه طموح في ان يعرف حقيقة الصراع العربي الاسرائيلي. فاسرائيل بالنسبة اليه هي الدولة الموالية لامريكا وحامية الغرب من شعوب عربية متخلفة «غير ديمقراطية»، وهذه الرؤية لدى الامريكي المتوسط هي رؤية اسرائيلية.. صاغتها وسوغتها وروجتها أجهزة إعلامية ذات تأثير، وخاصة القنوات التلفزيونية الاهلية والمحلية التي تبث لولاية او لمدينة كبرى او لمجموعة مدن، هذا هو المجتمع الامريكي امام قضية فلسطين .. كيف نغير هذه المعادلة؟ هكذا تكلم اليّ ميشال جوبير وهومدى حياته مسكون بهاجس التخبط الامريكي ويعتبره امّ المعضلات امام قضية فلسطين. وأني اقرأ مقالات جوبير الصادرة بعد 11 سبتبمر 2001 وأرى انه حلل الاحداث بنفس المنطق، بل انه كان منذ سنوات عندما كان يتحاور في عام 1973 مع زميله الامريكي هنري كيسنجر ينصح الادارة الامريكية بقراءة حرب اكتوبر 73 بعيون اخرى، وتوقع أزمة عالمية كبرى من جرّاء مساندة الظلم الاسرائيلي بلا ضوابط. اما الصديق المفكر رجاء غارودي رحمة الله عليه فكانت لي معه أحاديث مطولة في بيته .. قال لي منذ عشرين سنة «اني اكتب كتابا هذه الايام سيكون عنوانه: «امريكا تقود العالم الى الهاوية!» فقلت له: لعل هذا امر مبالغ فيه .. فرد علي قائلا: لا انها الحقيقة .. لم تدرك امريكا بعد ان حجمها العملاق الأوحد يفرض عليها اليوم رسالة في حوار الحضارات ونصرة المظلومين ورفع راية مباديء حقوق الشعوب وحقوق الانسان .. الى اليوم لم تتعلم تلك القوة العظمى ان عالما خاليا من تلك المباديء لن يصمد .. وسيجرف امريكا معه او تجرفه امريكا الى الهاوية، ان امريكا تمهد مع الأسف لعالم بلا قيم . او بالاحرى بقيم بلا محتوى. هي ترفع شعارات الحرية مثل تمثالها الشهير لكنها لم تتحول الى ممارسة سياسية وحضارية. هكذا تكلم ثلاثة رجال أقدّرهم وأحترمهم .. والزمن أعطاهم الحق والمصداقية.