رغم ما يعتري مسار التسوية من فشل وجمود فإن بعض الأطراف في السلطة الفلسطينية لا تزال متفائلة بقيام الدولة الفلسطينية «الموعودة» قريبا ولا تزال متمسّكة بأن المفاوضات ستكون الخيار الوحيد لتحقيق ذلك مشيرة الى أنها تنتظر «مقترحات» أمريكية في هذا الاتجاه... فهل أن هذه الأطراف ترى ما لا يراه الآخرون... أم أن عندها معطيات ومعلومات لا يعرفها غيرها.. ثم من أين تستمدّ كل هذه «الثقة في النفس»؟ ٭ ٭ ٭ في البداية لابدّ ان يحسد المرء هذه الأطراف في السلطة الفلسطينية على قدرتها على التفاؤل في مثل هذه الظروف العاصفة لكن اللافت للنظر ما يبدو ان هذه الجماعة تشدد في كلامها على وعود وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بأن الولاياتالمتحدة ستقدّم مقترحات جادة لتحقيق السلام.. وكأن هذا هو مربط الفرس في الحكم على الموقف الأمريكي في مسار التسوية.. لم تضع السلطة الفلسطينية مثلا حدّا أدنى احتمال لأن يكون حديث هيلاري كلينتون متضمّنا مناورة ما تشجعه على الاستمرار في السير وراء سراب التسوية بدلا من تبني الأولويات الحقيقية كجدول أعمال مثل إنهاء الانقسام الفلسطيني وتعزيز التأييد العربي والدولي للنضال الوطني الفلسطيني.. كذلك لم تظهر في تصريحات هذه الأطراف الفلسطينية أنها تدرك ان واشنطن لا تناور وأن إدارة أوباما غير قادرة بالضرورة على تنفيذ وعودها لاعتبارات بنيوية لا تتعلق بمدى صدقية هذه الإدارة من عدمه وإنما بتاريخ من الانحياز الأمريكي الواضح والفاضح لكيان مجرم ودموي وعنصري منذ اغتصاب هذا الكيان لأرض فلسطين.. أيضا، يبدو ان هذه الأطراف لم تر النصف الآخر من الكأس او هي بالأحرى لا تريد ان تراه في التصريح ذاته الذي أدلت به كلينتون والذي قالت فيه بصريح العبارة ان العلاقات الأمريكية الاسرائيلية تاريخية ولا تتزعزع... هنا ينبغي أن نتذكّر أن ربع قرن بالكامل مر بين مبادرات التسويف والمناورة التي دشنها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن عام 1982 وهو ما يعدّ في حد ذاته مؤشرا على عقم السياسة الأمريكية تجاه التسوية فهي تحاول ان تصل الى انضاج تسوية منذ ما قبل مبادرة ريغن وعلى الأقل منذ زيارة الرئيس الراحل أنور السادات الى القدس عام 1977 في عهد جيمي كارتر ومع ذلك ظلّت هذه السياسة الأمريكية كما في كل مرة عاجزة عن تنفيذ وعودها للعرب.. علينا هنا أن نذكر ان مبادرات ووعودا بالجملة «تناوبت» على اطلاقها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بدءا بمبادرة ريغن في سبتمبر 1982 حين أعلن خطته للتسوية والتي رفضت الاعتراف بالسيادة على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة وإعطائها للأردنيين.. وكان هذا تحديدا، اي سحب السيادة من أيدي الفلسطينيين والاسرائيليين معا هو ما عجّل بالرفض الاسرائيلي للخطة وهو رفض جاء سريعا وحاسما بعد ساعات قليلة ليتم من ثم تشييع هذه الخطة الى مثواها الأخير.. ولم تكن مبادرة ريغن هي الأولى او الأخيرة التي لاقت مثل هذا المصير فقد تبعتها مبادرات أخرى عديدة على غرار اتفاقية «أوسلو» وخريطة الطريق ومؤتمر أنابوليس وغيرها وكل هذه المبادرات الأمريكية داستها جرّافات ودبابات الاحتلال الصهيوني... ويعني هذا أن «بيت القصيد» ليس في ما تطلقه الولاياتالمتحدة من مبادرات وإنما في موافقة الكيان الاسرائيلي عليها... وهذا شيء راسخ في تاريخ العلاقات بين الجانبين... فهل أن الأمر مازال يحتاج بعد كل هذا الى انتظارات ومراهنات على «مدد أمريكي» بإمكانه إنقاذ الموقف؟ ٭ ٭ ٭ في الحقيقة لا نتصوّر ان هناك أمورا ملموسة لا تراها غير هذه الأطراف ولا نعتقد ايضا بوجود وعود جادة من اي طرف كان يقف وراء هذا التفاؤل وسط كل هذه المحبطات المحيطة بمشهد الصراع لأن الصورة اليوم لم تعد تتطلب مزيدا من التوضيح... فالتصريحات الاسرائيلية المعلنة وممارسات الاحتلال على الأرض وما يفرضه على أرض الواقع بالضفة والقدس من خلال الاستيطان او في غزة من خلال التصعيد العسكري والحصار المروّع كلها عوامل لا تبقي اي مجال للتفاؤل.. ... وكل ما في الأمر على ما يبدو ان كل طرف يراهن اليوم على عامل الوقت ويحاول تسجيل مواقف على حساب الطرف الآخر في انتظار متغّيرات «قد تأتي.. وقد لا تأتي».. لكن عامل الوقت هذا بالتأكيد لا يلعب لمصلحة الجانب الفلسطيني الذي يراد اليوم «إشغاله» ب «متاهة المفاوضات» وجرّه الى تقديم مزيد من التنازلات.. وهذا هو «الفخ الصهيوني» القاتل الذي يتم استدراج الطرف الفلسطيني إليه شيئا فشيئا... وساعتها لن يجد الفلسطينيون ما يفاوضون عليه... ولا ما يتفاءلون بشأنه... لأن الهدف في هذه الحالة سيكون.. اغتيال التفاؤل.. والحلم الفلسطيني نفسه..