حراك كبير يشهده المشهد اليساري التقليدي هذه الأيام بشقّيْه الماركسي والقومي التقدمي نحو استفاقة تنظيمية بالأساس وسَعْي حثيث نحو التوحّد داخل حزب واحد لأصحاب القراءات المتقارِبة أو التخندق في جبهة عريضة لتوسيع دائرة الأصدقاء وعَزْل العَدُو قد ينتهي إلى «دُمْ» بالتونسي أو بكل اللغات إلى «تمخّض الجبل فولد ..» إن لم تنجح هذه المحاولات. حركة الشعب الناصرية كان لها السبق بتوحيد جناحيْ محمد الابراهمي وزهير المغزاوي (التنسيب للأسماء مجازي فحسب لتسهيل الأمور على القارئ لا أكثر ولا أقل وعلى أصحاب الإسهال التأويلي الأورتودوكسي احترام أضواء الرادار الحديثة)، ثم كانت الجبهة الشعبية الجامعة ل13 حزبا وحركة في أهم إعلان مبادئ لافت للانتباه بعد الثورة. واليوم بالذات ، يأتي ما يسمى المؤتمر التوحيدي للتيار الوطني الديمقراطي – الوطد – بين حركة الوطنيين الديمقراطيين (شكري بلعيد) والعمل الوطني الديمقراطي(شق محمد جمور). في كل هذا الحِراك، يأتي حارُّ السِّواك ،هل تَشي الأمور بظاهرها الجامع أم أنّ ما خفي يشير إلى الحَرَكَة و«قِلّة البركة»؟. نبدأ بالتيار القومي الناصري وأساسا حركة الشعب، ربما كانت أقل الأطراف تضررا من التجميع والدليل بالأرقام ،فحركة الشعب هي الأولى حاليا في نسق تركيز مكاتبها الجهوية والمحلية الجديدة في كل البلاد ولكنّ التوحيد له خسائر جانبية منها خروج قياديين بارزين بما أدخل الرادار في حالة انبهار بضوء «دَخِّلْني نخرجك من اللعبة» ويحتفظ الرادار بقائمة «الفريقو» الحالي. ثم إنّ بعض المستقيلين بعد المسار التوحيدي كوّنوا جمعية «وقتيّة» للفكر الناصري في انتظار فرصة تحزّب جديدة، والعميد بشير الصيد قال أنه أسّس حركة «مرابطون» وها أنّ أضواء الرادار مرابطة منذ مدّة ولا أفُقَ قريب لظهور المرابطين الجدد ! أمّا عن «الأوْطَاد» وبعضهم يعيش اليوم وَقْعَ مؤتمر حزب الوطنيين الديمقراطيين المُوَحَّد فحدّث ولْيَكُن الحَرَج والمَرَج:حَوَد ،عَوَد(و في بعض الأحيان عُود ولكن في غياب القواعد أين عَيْن الحَسُود ليكون فيها العُود؟)، وَطد، الوطد ، وَطَج .أوطاد،أوطاج، مَوَد، تَوَد وشَوَد! هل امتلأت الثكنة بالضُّبَّاط في غياب الجنود؟ (أنا طارق ابن زياد فأين جيوشي؟). ما قد يُحسَب لشكري بلعيد مُضِيّه قُدُما في التوحيد دون التفات للظواهر الصوتية ولكنّ الضَّوئية لها رأي آخر ،هل حقا هو مؤتمر توحيدي ؟، والبعض مازال يناقش إلى اليوم هل نقول «أرض حرية كرامة وطنية» بالألِفِ واللاّمِ أم بدونهما وهي مسألة أساسية تهمّ الطبقة الكادحة!. أين حزب العمل الوطني الديمقراطي(شق عبد الرزاق الهمامي) الذي بحث في مجلسه المركزي الأخير سُبُلَ التوحيد الحقيقي لتيار الوطد في أفُق لا يتجاوز السنة ولكن مع مَن!، أين عبد الناصر العويني ؟ أين الوطديون غير المنتظمين حزبيا الذين أكّدوا عدم اتصال أحد بهم؟ ثم وهذا الأهم وبالتوازي مع مؤتمر بلعيد وجمورالتوحيدي! تمّ الإعلان الرسمي من طرف «الوطنيون الديمقراطيون» (جمال لزهر وعبد الله بن سعد) عن تأسيس الحزب الوطني الاشتراكي الثوري*وطد* .يبدو إذن ضوء مسار التوحيد بعيدا عن اللون الأخضر وقريبا من الضوء الأحمر. أمّا عن حزب العمّال ..الشيوعي سابقا ،فيعرف الجميع تاريخيا خروج محمد الكيلاني و«حَلَقَتِه» ثم تأسيسه للحزب الاشتراكي اليساري، والخلاصة أنْ لا أحد في اليسار نجا من انفراط حبّات الرفاق وشعارهم «لا نَجَوْتُ إنْ نجا!». واليسار تميّز منذ نشأته في تونس بمناضلين نَوعيين ومبدئيين من ذوي الثقافة العالية وقدّم عديد الشهداء في تونس وفلسطين ولبنان وغيرها من البلاد العربية، لكنّ السياسة تتطلّب أقل من ذلك بل ربما في بعض الأحيان يلزمها نقصا في الثقافة وتكتيكات غير مبدئية وتكون جماعية لا فردية، حتى يجد اليسار جنودا لتفعيل مقارباته على الأرض، فلا أحد ينكر أن اليسار بكل مدارسه هو الذي قاد «تثوير» مرحلة 17 ديسمبر – 14 جانفي بامتياز ولكن ّ صندوق 23 أكتوبر لم يكن ثوريا لأنّ «ما أكثر الضُّبّاط... ما أقلّ الجنود!!» والجبهة الشعبية تبقى الفرصة الذهبية الأخيرة ليقلّ عدد الضباط (القيادة) ويزيد عدد الجنود (من الشعب الكريم)، فهل يجتمع اليسار أخيرا لتحديد المآل والمسار ويتجاوز نرجسية زعمائه الكُثّر؟، المؤشرات تشي بذلك حتى لا يستفيق متأخرا على وقع أغنية ردّدها بعض الساخرين في 23 أكتوبر «يا يسار يا بوهالي، عملت الثورة وعطيتهالي!» (وفيها اعتراف ضمني رغم ذلك بقيمة اليسار). يسار، يمين، يسار .. والرادار كعادته في الانتظار.