عاد الحديث عن تحصين الثورة بشكل لافت هذه الأيام ... ولا ندري إن كان الأمر سيصل هذه المرة إلى مداه الأقصى، وإلى حد الخروج بقانون من المجلس التأسيسي يمنع على بعض التونسيين الترشح للانتخابات القادمة ... أم أن الزوبعة ستهدأ كالعادة ليفسح المجال، في الكواليس، للتسويات وحتى للمقايضات السياسية. نعم الثورة بحاجة للتحصين... ولكن هل أن العزل السياسي لبعض المسؤولين في النظام السابق، هو كل ما يجب فعله لتحصين هذه الثورة؟ وهل أن إقرار هذا القانون سيحمي وحده الثورة ويضعها على الطريق الصحيح، وسيمكن فعلا من تحقيق أهدافها التي لم يتحقق منها إلا القليل؟ للكثير من التونسيين، مشكل مع موضوع التحصين هذا... ويكمن جزء من هذا المشكل في الصيغة التي يتحدث البعض بها عن هذه المسألة، في حين يكمن الجزء الآخر في التوقيت.. فمن حيث الشكل، واعتمادا على خطاب بعض السياسيين، يبدو الأمر أحيانا أقرب إلى «التهديد» والوعيد، وتصفية الحسابات السياسية وحتى الانتقام، أكثر منه دفاعا عن المبادئ والقيم.. أما من ناحية التوقيت فكان من المفروض طرح هذا الموضوع في وقت سابق جدا، لا تغييبه أو إثارته وفق التطورات التي تعيشها الساحة السياسية.. إن تحصين الثورة لا يمكن أن يكون مجرد حرمان شريحة ما من المجتمع التونسي من حق الترشح للانتخابات القادمة... بل هو يمر أولا وقبل كل شيء بفهم ما جرى في تونس على مدى عقود، وتحديد مسؤولية كل طرف في ما عرفته البلاد. ومن فعل ماذا وكيف ولماذا؟ ولن يتسنى ذلك إلا بالمساءلة والمحاسبة ثم بعد ذلك المصالحة وفق شروط وآليات عادلة. أما ما يجري الآن فإنه مجرد وضع إطار عام، دون مستند موضوعي وعلمي أحيانا، لإعداد قائمات - تطول وتقصر من يوم لآخر- لمسؤولين سيقع منعهم من الترشح للانتخابات، أو لتحمل مسؤوليات سياسية قيادية. تحصين الثورة هو برنامج عمل كبير يظل المواطن التونسي جوهره وغايته الأساسية.. وهو أولا وقبل كل شيء وضع الأطر القانونية والمؤسسات والآليات التي تضمن في المستقبل عدم إعادة إنتاج أية منظومة فساد أو ظلم وتمنع أي مسئول من تجاوز صلاحياته والاستفادة من منصبه، والتعدي على حقوق المواطنين البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة. تحصين الثورة هو تثبيت لمؤسسة قضائية مستقلة وعادلة تعطي لكل ذي حق حقه، ولا يقهر في رحابها أي تونسي، فقيرا كان أو غنيا. تحصين الثورة هو تكريس مقومات إعلام حر ونزيه، لا يتحامل ولا يجامل، ولا يزين الواقع إرضاء للحاكم، بل يعكس هموم المواطن ومشاغله ويلعب دور السلطة الحقيقية المضادة التي تلفت الانتباه لكل التجاوزات مهما كان مأتاها.. تحصين الثورة هو إقرار آليات محايدة ومستقلة تضمن شفافية العملية الانتخابية ونزاهتها حتى يكون لصوت كل تونسي وزنه وتأثيره .. تحصين الثورة هو ضمان حق المواطن في التعبير الحر عن رأيه، والتظاهر السلمي دون أن تضطهده أية جهة كانت، ودون أن يعنف أو يلاحق بسبب ممارسته لهذا الحق. تحصين الثورة هو انتهاج سياسات تحقق العدالة الاجتماعية، وتحد من التفاوت الجهوي المجحف، وتوفر للمواطن حيثما كان أسباب العيش الكريم وفي مقدمتها الشغل اللائق. بهذا المعنى فإن تحصين الثورة يبقى أكبر بكثير من مجرد ضبط قائمات في من لا يحق لهم الترشح للانتخابات القائمة. ولكن هذا لا يمنع من تحديد المسؤوليات المباشرة أو الأخلاقية في ما آلت إليه أوضاع البلاد، لكل من شغل منصبا سياسيا في النظام السابق وتحميله تبعات أفعاله وخياراته. فقد يكون البعض يستحق أكثر من مجرد حرمان من الانتخابات، في حين أنه لم يكن للبعض الآخر أي ذنب في ما جرى. ويظل كل هذا الشغل من مشمولات العدالة الانتقالية، أو القضاء العادي التقليدي، وليس نتيجة لقرار سياسي، يخضع لاعتبارات ظرفية أو لموازين قوى معينة في لحظة تاريخية ما، حتى لا يظلم أحد .. وحتى لا تظلم تونس مرة أخرى .