لم تكن أحداث 9 أفريل سوى اعادة لسيناريو معركة الدغباجي وحكاية «الخمس إلى لحقوا بالجرة وملك الموت يراجي» -التي توصف بملطم مخزن مطماطة -...وملاحمه ضد قوات الاستعمار الفرنسي من واقعتي «زلوزة» و«المغذية» إلى أن اعدم بعدما كبّد العدو خسائر فادحة... فالدغباجي أو كما يسميه رفاقه «قلب الأسد» -صاحب المقولة الشهيرة «ليس هناك احد يستطيع إيقافنا ونقسم على أننا لو لم نكن ننتظر ساعة الخلاص لأحرقنا كل شيء والسلام من كل جنود الجهاد»-... لم يكن مجرد علم نضالي بل هو روح وعقلية مقاومة تتوارثها الأجيال في كفاحها ضد المظالم ... فلكل عصر دغباجيه أو منقذ يدفع حياته قربانا ليرفل غيره في أجواء الحرية ...هكذا هي سنة النضال، وهكذا كان قدر علي البلهوان و«الفلاقة» والمنجي سليم ....أبطال معركة الحسم سنة 1938ومحور تنظيم المد الشعبي الساحق الذي أعطى فيما بعد ثمرة الاستقلال بعد أحداث دامية روت خلالها دماء الشباب ارض تونس وانتهت بطرد المستعمر. لقد خلقت خطبة علي البلهوان اللحظة الفارقة وحولت السبات إلى حركة وألهبت حماس الشعب لتصنع من عجز المهمشين وأنين الجياع وزفرات المرضى ودموع المحرومين قوة كبيرة ... فنطقت حناجرهم هاتفة «برلمان تونسي برلمان تونسي»وناشدت الانعتاق ,الكرامة ,الحرية وقد جاء في خطاب الزعيم علي البلهوان يوم 8 أفريل 1938 بساحة الإقامة العامة بتونس العاصمة ما يلي: «جئنا في هذا اليوم لإظهار قوانا - قوة الشباب الجبارة التي ستهدم هياكل الاستعمار الغاشم وتنتصر عليه، جئنا في هذا اليوم لإظهار قوانا أمام هذا العاجز مشيرا الى المقيم العام «غيون». وأضاف قائلا «يا أيها الذين آمنوا بالقضية التونسية، يا أيها الذين آمنوا بالبرلمان التونسي، ان البرلمان التونسي لا ينبني الا على جماجم العباد، ولا يقام الا على سواعد الشباب! جاهدوا في الله حق جهاده، اذا اعترضكم الجيش الفرنسي أو الجندرمة شرّدوهم في الفيافي والصحاري وافعلوا بهم ما شئتم، وأنتم الوطنيّون الدائمون في بلادكم وهم الدخلاء عليكم! بالله قولوا حكومة خرقاء سياستها خرقاء وقوانينها خرقاء يجب أن تحطّم وأن تداس، وها نحن حطّمناها ومزّقناها، فالحكومة قد منعت وحجّرت رفع العلم التونسي، وها نحن نرفعه في هذه الساحة رغما عنها! والحكومة منعت التظاهر وها نحن نتظاهر ونملأ الشوارع بجماهير بشريّة نساء ورجالا وأطفالا تملأ الجوّ هتافا وحماسا». لم يأت تاريخ 9افريل من وحي الصدفة بل هو نتاج نضال بالقلم والقول لهذا الرجل الذي لم تخفه فرنسا بجبروتها وعنجهيتها. لقد استغل المرحوم علي البلهوان كل المناسبات إبان فترة الاستعمار ليدعو الناس الى مواصلة النضال، وإلى العمل والجهاد والاجتهاد من أجل احلال التونسي المقام اللائق به، ودعا الى التعلّم والقضاء على الأميّة، ووجّه تلاميذه وكل الشباب الى العلم، وحثّ الأثرياء على التبرّع للمحتاجين بالمال حتى يتمكن الفقراء من مواصلة دراساتهم، داخل تونس وخارجها، ولا أدل على ذلك النداء الذي توجه به، في جريدة «الزهرة» سنة 1947 لمؤازرة الطلبة التونسيين حتى يكملوا تعليمهم، بمناسبة تنظيم « يوم الطالب» بجمعية قدماء الصادقية بعنوان مؤثر: «جودوا على العلم»، جاء فيه قوله: «العلم غذاء النفوس، والأمة الجاهلة جسد بلا روح، وآلة مسخرة، الجهل عبودية ورق، والشبيبة التونسية تدعو أمتها الى كسر الأغلال، وفك الرقاب من تلك العبودية... الجهل ظلام وضلال... فهل نبقي أبناءنا في الظلام وهم يسعون الى إخراجنا الى النور؟ وهل نبخل ببعض المال الضئيل على من سيأتي إلينا بكنز لا يفنى فنضيع الحاضر والمستقبل؟فالأمم توزن بميزان العلم، والأمة الجاهلة لا تساوي جناح بعوضة في كفة ذلك الميزان... والعلم وحده يحقق الغايات ويذلل الصعاب. فهل تتحد البلاد ويشيد صرحها الثقافي والاقتصادي بغير علم، والعلم أساس كل بنيان، وكل نهضة وكل رقي...؟ من أنفق في سبيل العلم فقد أعتق رقبة من الجهل، ووضع حجرا في صرح نهضتنا وخطا أعظم خطوة في سبيل الخلاص، جودوا على العلم يجد على أمتكم بأضعاف ما جدتم عليه». لقد كان علي البلهوان من بين الذين نادوا بنزول المثقفين إلى ساحة الوغى للقيام بفروض الجهاد الأكبر جهاد الجهل وأرسى أسلوب الاتصال المباشر بالشعب لأنه كان يدرك أن مسؤولية المثقف، تجعل الرجل أكمل انسانية، وأوسع أفقا، وأنصح عقلا، وأدق تفكيرا، وأسرع فهما من الجاهل، لذلك كانت مسؤوليته في المجتمع أكبر بكثير ... لم يكتف علي البلهوان بذلك فقط بل تصدى بشدة لمشروع فَرْنسَة التونسيين ودافع بشدة عن مفهوم الأمة الذي يجب أن يتغلغل بالشعور بالانتماء لهذا الوطن حيث يبقى القيمة الأسمى التي يجب أن تتغلب على الأطماع المادية الزائلة ...كما وقف في وجه دعاة الانغلاق وسعى إلى إظهار الوجه الناصع للفكر الإسلامي من خلال كتابه «ثورة الفكر أو مشكلة المعرفة عند الغزالي»، وهو بذلك يقدم للشباب أمثلة حية للمجددين المفكرين الأحرار الذين جاهدوا في سبيل نشر الدين الصحيح، باعتباره أحد مقومات الشخصية التونسية الذي يحمي الشباب من القفز إلى الوراء او الانصهار في شخصيات أخرى لا تمتّ بصلة إلى الهوية الانسانية. شكّل علي البلهوان صحبة المنجي سليم ثنائي الإبداع النضالي الفكري الشعبي حيث اعتبر المنجي سليم علما من أعلام الذاكرة الوطنية ولقّب بالزعيم المحبوب. كان بشوشا ويعمل في صمت وهو يعد من الشخصيات اللامعة في الحركة الوطنية. ولد بتونس في 15سبتمبر 1908من عائلة ذات أصول عثمانية –جده الجنرال سليم وزير الحرب في منتصف القرن التاسع عشر –من عائلة «بلدية كان لها دور هام في الحركة الوطنية عن طريق المنجي سليم. زاول هذا الأخير دراسته بالمدرسة الصادقية ثم بمعهد «كارنو» والتحق بفرنسا ليواصل دراسته الجامعية في الرياضيات لكنه التحق بكلية الحقوق بباريس غير ان اقامته هناك لم تقتصر على الدراسة فقط حيث اقتحم العمل السياسي وذلك عبرالنشاط الطالبي ومنذ عودته الى ارض الوطن كان همه الدفاع عن شعبه من استبداد المستعمر فانضم الى صفوف الحزب الحر الدستوري التونسي وانتخب كاتبا عاما سنة 1937بفضل حنكته في التعامل مع القضايا الوطنية. وقد لعب المنجي سليم دورا كبيرا أثناء عملية التفاوض مع فرنسا من اجل الحصول على الاستقلال ونظرا لحنكته وثقة الزعيم بورقيبة في شخصه عين وزير دولة في أول حكومة استقلال كما لعب دورا هاما على الساحة الدولية لآرائه ومواقفه النيرة من العديد من القضايا الدولية فتم تعينه أول سفير لتونس لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية ,كان «مهندس» الديبلوماسية التونسية عن جدارة من خلال إظهار وجهة نظر تونس من بعض القضايا منها قضية الجلاء عن بنزرت في جويلية 1961, واسهامه في حل مشكلة الكنغو ومشكل الجزائر الشقيقة قبل حصولها على الاستقلال الى جانب قضيتي السويس والمجر والتي تطلب فضها حنكة السياسيين والدبلوماسيين كما كان له الفضل في انتخاب تونس عضوا بمجلس الأمن . اليوم الحاسم في يوم 9افريل 1938 خرج التّونسيّون إلى الشّارع وهم يهتفون «برلمان تونسي... برلمان تونسي...» انطلقت مظاهرتان احداهما من ساحة الحلفاوين بالعاصمة بقيادة علي البلهوان والأخرى من رحبة الغنم يقودها المنجي سليم وخرجت المرأة التونسية في تلك المناسبة للتظاهر لأول مرة وقد ردّ عليهم جنود الاستعمار بالرّصاص فاستشهد من استشهد واعتقل من اعتقل, ونُفي من نُفي – تم اعتقال المنجي سليم الذي ابعد الى الجنوب وتحديدا الى سجن «جلال» من ولاية مدنين ثم نقل الى المنفى بمرسيليا وظل سجينا وأطلق سراحه سنة 1943 اثر تدهور الجبهة العسكرية الفرنسية أمام زحف قوات المحور وتحقيقها انتصارات متتالية على الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وعندما عاد الى أرض الوطن استأنف نشاطه السياسي وعهدت إليه مهمة مدير الحزب وكان في اتصال دائم بالشعب والمناضلين واقترح توسيع دائرة النضال الحزبي بتكوين الشعب والخلايا وحظي بثقة المناضلين الدستوريين وانتخب عضوا بالديوان السياسي سنة 1948بمؤتمر الحزب الذي انعقد بمنزل عائلته المناضلة سنة 1948- ومن الملاحظ أنّ المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشّارع يوم 9 أفريل 1938 لم يرفعوا شعار «برلمان تونسي... برلمان تونسي» من باب الصّدفة. لقد كان لهذا الشّعار في أذهانهم مغزى عظيم. فالبرلمان التّونسي يرمز من جهة إلى السّيادة الوطنيّة والمتظاهرين عبّروا من خلال هذا الشّعار عن رفضهم الحكم الأجنبي الاستعماري وطالبوا بأن يصبح التّونسيّون سادة في وطنهم, كما أنّه يرمز إلى السّيادة الشّعبيّة, فالمتظاهرون عبّروا من خلال ذلك الشّعار أيضا عن رغبتهم في أن تحكم البلاد سلطة تونسيّة منتخبة من قبل الشّعب انتخابا حرّا وديمقراطيّا، لا سلطة مفروضة من فوق من قبل مستعمر غاصب أو بدعوى حقّ أو رعاية. ولم تكن أحداث 9 أفريل مجرد احتفال «كارنافالي باهت» بل لها دلالات رمزية أعمق بكثير لأنها تعكس حرب الإنسان على كل أشكال القهر والاستعباد والظلم وهي أحداث تعني أن للكرامة والحرية ثما وجب دفعه لذلك تكررت الأحداث بنفس الشعارات في مظاهرات الخبز عام 1982 وأحداث الحوض المنجمي عام 2008 ,وفي 14جانفي 2011 ولم تختلف الا من حيث التاريخ ...حيث هب جميع التونسيين لاسترجاع حقوقهم المسلوبة . وحسب بعض المؤرخين فإنه في 9 أفريل 1938خرج كل التونسيين ليبارزوا العدو الأجنبي والسلطة الأجنبية المغتصبة لكن ما يثير التساؤل انه مع انتقال السّلطة إلى أيادي تونسيّة لا يزال الشّعار الذي رفعه متظاهرو 9 أفريل 1938 شعارا للإنجاز والبرلمان مطمحا للتّحقيق، والمؤسّسة التي وجدت منذ الاستقلال لم تحمل من البرلمان سوى الاسم ولم تعكس أي سلطة حقيقية للشعب. فالشعب كان دائما في آخر الحسابات وهذا الجهاز لم يتم سوى لتزكية الحاكم الذي يتفرد بجميع السلط . لقد ظلّ الشّعب التّونسي منذ «الاستقلال» فاقد للسّيادة، مقصيا عن الشّأن العامّ، لا يقدر على اختيار حكّامه الذين يفرضون عليه فرضا عن طريق انتخابات مزوّرة ويلزم بطاعتهم والولاء لهم، محروما من أبسط حقوقه السّياسيّة ومنها خاصّة حرّية التّعبير والتّنظيم والاجتماع، عرضة لقمع جهاز بوليسي ضخم ووحشي وهياكل الحزب الحاكم وشبكة الوشاة المرتبطة به تتصرّف كما تتصرّف عصابات الإجرام، خارج القانون وتستعمل أبشع الطّرق من اختطاف, اعتداء جسدي على الحياة الخاصّة تعذيب وقتل، وإدارة في خدمة الحاكم وحاشيته، تيسّر لها نهب البلاد وممارسة الفساد على أوسع نطاق حتى جاءت ثورة جانفي 2011 والتي مازال الشعب ينتظر منها اعداد دستور يركّز مؤسسات حرة تعمل في اطار الشفافية الكاملة لتكون حقا صوت وضمير الشعب التونسي.