بقلم : مصطفى قوبعة عاد موضوع الإرهاب ليحتل صدارة اهتمامات جميع التونسيين دون استثناء بعد المستجدات الأخيرة التي شهدها جبل الشعانبي. وطبيعي جدا أن تتعدد التعاليق والتحاليل، فالحدث ليس بالهيّن خاصة مع سقوط شهيدين جديدين من جيشنا الوطني واصابة اثنين آخرين بجروح متفاوتة الخطورة. وأهم ما لفت الانتباه في آخر حلقة من حلقات انفجار ألغام الشعانبي هو موقع الانفجار أولا ونوعية اللغم المنفجر ثانيا وعدد الاصابات ثالثا. ويبدو من الواضح أن وراء المجموعة المسلحة المتحصنة بجبل الشعانبي شبكة واسعة للدعم اللوجيستي تؤمن لها احتياجاتها الضرورية كما تمدّها بما يكفي من المعلومات بما يساعدها على التخفي وعلى تأمين تحركاتها وعلى التنقل سريعا من موقع الى آخر. ويفهم من أول لغم انفجر في جبل الشعانبي أن عناصر المجموعة المتحصنة به اعتمدوا ميدانيا على تكتيك يقوم على عدم الدخول في المواجهة المباشرة مع قوات الجيش والحرس الوطني المرابطة بالمكان والمكلفة بتعقبهم، مقابل العمل على ايقاع أكبر عدد ممكن من الاصابات في صفوف هذه القوات باستعمال تقنية الألغام بدءا بالألغام المضادة بالجنود المشاة وصولا للألغام المضادة للعربات. ولعل أغرب تعليق على الحدث هو ذلك الذي صدر عن السياسي محمد عبّو زعيم المبادرة الديمقراطية المنشق بدوره عن حزب «المؤتمر» والذي دعا الى اجراء تحوير على رأس القيادة العسكرية، هكذا وبكل بساطة محمّلا هذه القيادة العسكرية مسؤولية الفشل في مواجهة الارهاب. ومن حسن حظ السيد محمد عبو أنه كان آخر السياسيين الذين تعرضوا الى موضوع الارهاب بعد أن صمت طويلا أمام كل المؤشرات ولم يعلق على كل المخاطر التي نبهت منذ أشهر عديدة لبداية انتصاب الارهاب في بلادنا بصفة فعلية بدءا بالأنباء المتواترة عن تداول غير مسبوق للسلاح في جهات مختلفة من البلاد وبما راج عن وجود مخيّمات تدريب، وبالخطاب الديني الموجه في الكثير من دور العبادة وبالمقاصد الحقيقية من وراء انتشار الخيمات الدعوية وبنشاط العشرات من الجمعيات المشبوهة أداء وتمويلا وصولا الى شبكات تجنيد المئات من شبابنا للقتال في سوريا. صمت السيد محمد عبّو أمام كل هذه المؤشرات والقرائن والدلائل ليطل علينا اليوم بتصريح صبياني لا يقل سطحية وشعبوية عن تصريحاته السابقة في خصوص مسائل أخرى ذات علاقة بالشأن العام. واذا كان ثمة اليوم فشل في ما اصطلح على تسميته بمواجهة ظاهرة الارهاب فإن المسؤولية ترجع بدرجة أولى وأخيرة الى السلطة السياسية القائمة دون غيرها، ولا فائدة في النهاية من البحث عن كبش فداء من داخل المؤسستين العسكرية والأمنية. ويعلم السيد محمد عبّو كما يعلم غيره أن السلطة السياسية هي المسؤولة عن وضع السياسات الخاصة بمقاومة الارهاب على جميع المستويات، ومن هذه السياسات تبني المؤسستين العسكرية والأمنية استراتيجياتها مثلما تبني بقية مؤسسات الدولة استراتيجياتها القطاعية كالمؤسسة الدينية والمؤسسة التربوية والمؤسسة الثقافية والمؤسسة الاعلامية وغيرها.... لقد افتقرت السلطة السياسية القائمة الى رؤية واضحة في مواجهة الارهاب مثلما افتقرت الى رؤية واضحة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العاجلة، ولمعالجة أولويات الشأن الجهوي والمحلي ولإدارة عمليات الاصلاح الأكثر إلحاحا، فمن البديهي أن ينعكس عدم الوضوح هذا سلبا على أداء مؤسسات الدولة وأجهزتها. وعموما فإن أصل المسألة لا يتعلق بأشخاص أو بقيادات في حد ذاتهم وانما بارادة سياسية لا لبس فيها في مواجهة الارهاب بالشكل الذي تقتضيه مقومات ومتطلبات أمننا القومي دون تخاذل أو تردد أو حسابات سياسية ضيقة لا تنتهي سوى باحتراق الجميع بنارها. ولئن كان تصريح السيد محمد عبّو غير مقبول من شخص يرشح نفسه للعب دور بارز في المرحلة القادمة، فمن غير المقبول كذلك ما يصدر عن بعض الشخصيات السياسية من تقليل من شأن ظاهرة الارهاب في بلادنا ومن كلفتها مقارنة بما يحدث في العديد من البلدان العربية وكأنهم يسوّقون لنظرية التصرف مع الارهاب حسب الكلفة. ليس مطلوبا من الجميع الانتظار حتى تسيل الدماء أنهارا مثلما حدث ويحدث في بلدان شقيقة لنتفطن الى خطورة الأوضاع، فكل قطرة دم تسيل هي غالية على هذا الشعب، وكل عنصر عسكري أو أمني يسقط شهيدا أو جريحا هي طعنة في ظهر هذا الشعب خاصة أن الطبقة السياسية برمتها سواء كانت في السلطة أو في المعارضة ولو من منطلقات مختلفة هي على دراية تامة بتجارب البلدان العربية الأخرى وعلى قدر كاف من فهم حركية ظاهرة الارهاب في ارتباطاتها وفي تداعياتها المحلية والاقليمية والدولية، هذا فضلا عن حيازة الأجهزة الرسمية للدولة على كمّ هائل من المعلومات ومن المعطيات ومن التقارير الأمنية، وكلها عوامل كانت كفيلة منذ البداية بسد كل المنافذ أمام انتصاب الارهاب في بلادنا. اليوم أصبح الارهاب حقيقة في بلادنا يدفع ثمنها الكادحون من المؤسستين العسكرية والأمنية ولا أحد يعلم ما نصيب المدنيين منها، وأكثر من هذا فإن بلادنا مقبلة على ما يبدو على مرحلة أصعب وأدق مع العودة المتوقعة بشكل أو بآخر لشبابنا الفار من سوريا وللدفعة الأولى من المعتقلين منهم ممن قبلت السلطات السورية مبدئيا اطلاق سراحهم، ولشبابنا العالق في ليبيا الذي تعذر عليه الالتحاق بالمجموعات المقاتلة في سوريا بعد مزيد إحكام السلطات السورية قبضتها على منافذ تسلل المقاتلين الأجانب الى أراضيها وخاصة بعد أن تيقن الراعي الرسمي للعدوان الدولي على سوريا من فشله في إسقاط نظام بشار الأسد بالخطة التي رسمها. وفي هذا السياق بالذات، ثمة تساؤل على غاية من الأهمية غاب عن أذهان المحللين السياسيين التونسيين والعرب ويتعلق بسرّ هذا التركيز على تجنيد الشباب التونسي بدرجة أولى للقتال في سوريا وبهذا التجاوب غير المفهوم في اقبال الشباب التونسي على «الجهاد» في سوريا مهما كانت الأسباب المعلومة سواء كان هذا التجاوب مردّه الاغراءات المالية أو الظروف الاجتماعية الصعبة أو هشاشة البنية الذهنية لشرائح واسعة من شبابنا أمام عمليات غسل الدماغ متعددة المصادر التي يتعرضون اليها. وفي كل الحالات، فإنّ استهداف الشباب التونسي بدرجة أولى للقتال في سوريا ليس بريئا بالمرة وليس بمعزل عن رعاة تنظيم «القاعدة» ونيتهم في اعادة تمركز التنظيم في منطقة شمال افريقيا. ويبدو في هذا السياق أن الاتجاه يسير نحو تحويل مركز ثقل «القاعدة» في المغرب الاسلامي الى تونس، وقد يعود هذا بالأساس الى: تضييق الخناق الى أبعد الحدود على المجموعات الناشطة في هذا التنظيم على أرض الجزائر. الفشل في انتصاب المجموعات الجهادية في شمال مالي بعد أن فشلت في الاستقرار في موريتانيا وفي المغرب. توفر بلادنا على قاعدة خصبة من الشباب الجاهز ذهنيا ومعنويا للاستقطاب، ما يزال على عذريته العقائدية ولم يحترق بعد بنار الارهاب. توفر بلادنا على تضاريس ملائمة لنشاط هذه المجموعات من جبال وأحراش وغابات كثيفة رغم رقعتها الترابية الضيقة، وهي عوامل جغرافية غير متوفرة في ليبيا الشقيقة. الموقع المجاور لليبيا حيث ترسانة هائلة من الأسلحة خارجة عن سيطرة الحكم المركزي. بروز اسم «أبو عياض» كزعيم مرتقب من الزعماء الجدد لتنظيم القاعدة بعد أن تجاوز اشعاعه الحدود المحلية. ولئن لم تعلن السلطة السياسية القائمة فشلها بعد في مواجهة الارهاب فإن آخر المستجدات في جبل الشعانبي سيدفعها مستقبلا الى الظهور أمام الرأي العام أكثر حزما في التعامل مع الظاهرة ولكن يظهر أن خيوط اللعبة فلتت من أيديها وقد يكون السيف قد سبق العذل. ومن المفارقات ومثلما عودنا به مجلسنا الوطني التأسيسي، وفي الوقت الذي انتظر فيه الرأي العام وقفة حازمة منه في خصوص موضوع الارهاب عموما وفي خصوص تطورات الأوضاع في جبل الشعانبي وفي محيطه تنفجر فجأة أزمة سياسية داخل قبة المجلس في حجم القنبلة محورها دفتراقتنته نائبة محترمة من مالها الخاص! لله درّك أيها المجلس الوطني التأسيسي رئيسا ومكتبا وأعضاء وحسبنا الله ونعم الوكيل.