كان متوقعا أن تعيش الساحة الوطنية حالة غليان جراء عملية الاغتيال الجبانة والدنيئة للمناضل الشهيد محمد البراهمي... وكان منتظرا أن تزيد هذه العملية في تأزيم الوضع السياسي ودرجة الاحتقان بين «الترويكا» الحاكمة وبعض أحزاب المعارضة. ولكن ما جلب الانتباه، مباشرة بعد مواراة الشهيد محمد البراهمي الثرى هو الحديث الكثير حول تعامل قوات الأمن مع من اختاروا مواصلة التظاهر أمام المجلس الوطني التأسيسي وخاصة ما ردده البعض أن هناك انقساما في تعامل قوات الأمن مع المحتجين وإتباع تعليمات من جهات غير المصالح الأمنية التقليدية المعروفة وهو ما نفته الجهات الرسمية. فما قيل حول تعامل الأمن أمام المجلس التأسيسي، وقبل ذلك المآخذ حول تعامل بعض المصالح الأمنية، واتهام بعض القائمين عليها بالولاء لطرف سياسي بعينه، أمر خطير... وهذا لا يعني أنه لا يجب الخوض في مثل هذه المواضيع ، أو في مواضيع أخرى تتعلق بالمنظومة الأمنية الوطنية . ولكن لا يعقل أن تتحول هذه المسائل إلى مادة لملء صفحات «الفايس بوك»، والقيل والقال وحديث المقاهي.. لا أعتقد أن هناك أخطر من القول اليوم في مثل الظرف الحساس الذي تمر به تونس بأن هناك انقسام في قوات الأمن الوطنية... وبناء على ما حصل أمام المجلس الوطني التأسيسي مساء السبت وفجر أمس الأحد فإنه على الجميع وخاصة القيادات السياسية الانتباه إلى حساسية المسألة وعدم استسهال التصريحات بشأنها. وعلى كل من كان لديه معطيات جدية وإثباتات عن وجود تقصير ما أو تهاون لفت انتباه القائمين على وزارة الداخلية أولا وقبل كل شيء من خلال الأطر القانونية . كذلك فإنه من واجب وزارة الداخلية اليوم توضيح مختلف هذه المسائل التي أخذت تستحوذ شيئا فشيئا على نقاشات المواطن العادي واهتماماته، وكذلك تقديم التفسيرات اللازمة لمآخذ بعض الخبراء وحديثهم عن ثغرات في المنظومة الأمنية على خلفية عمليتي اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وكذلك على ما جاء في البيان الأخير لنقابات الأمن. وبالعودة إلى ما جرى أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي فقد بقيت الصورة غير واضحة تماما وخلقت ردود أفعال متباينة. وفي كل الحالات يبقى من حق التونسيين التظاهر السلمي. وهذا ما أكده وزير الداخلية وعليه الوفاء به. لقد شارك عشرات الآلاف من التونسيين الذين لا علاقة للكثير منهم بالسياسة، والذين قدم الكثير منهم من داخل البلاد ومن أقاصي الجنوب، في جنازة الشهيد البراهمي في يوم صوم من أيام رمضان الكريم تحت حرارة شديدة،. وكان الآلاف منهم قد توافدوا دقائق بعد سماعهم بعملية الاغتيال إلى المستشفى الذي نقل إليه الفقيد قبل أن يسلم روحه، وتحول بعد ذلك العديد من المواطنين على امتداد ثلاثة أيام إلى بيت الفقيد لتقديم واجب العزاء. هذا يعني أن التونسيين يرفضون أن يتحول الاغتيال السياسي إلى جزء من المشهد السياسي الوطني. وأنهم واعون أن عملية الاغتيال الأخيرة تمثل «زلزالا» مدمرا لتونس لا أحد بإمكانه التكهن بما سيخلفه من تبعات وتداعيات.. ومن هذا المنطلق تحركوا واحتجوا ومن واجب أجهزة الدولة وخاصة الأمنية أن تحميهم وترافقهم خلال تظاهرات الاحتجاج السلمي التي ينظمونها خاصة وأن الأمر يتعلق بفاجعة كبرى زادت من مشاعر الغضب و الإحساس بالقهر لدى عامة التونسيين الذين لا يكادوا يصدقون أن مثل هذه الجرائم ستتكرر بمثل تلك السهولة تحت أنظارهم وفي واضحة النهار، في الوقت الذي لم يستوعب فيه بعد العديد منهم عملية الاغتيال الأولى للقيادي السياسي الشهيد شكري بلعيد.