الكاف: ورشات فنية ومعارض وعروض موسيقية وندوات علمية في اليوم الثاني من مهرجان صليحة    مصادر دبلوماسية: اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية غدا بعد اعتراف إسرائيل بأرض الصومال    عاجل/ بعد اعتراف الكيان بأرض الصومال: حماس تصدر هذا البيان وتفجرها..    إيقافات جديدة في فضيحة مراهنات كرة القدم    8 قنوات مفتوحة تنقل مباراة تونس ونيجيريا اليوم في كأس أمم إفريقيا    اللجنة الوطنية الأولمبية التونسية: محرز بوصيان يواصل رئاسة اللجنة    الإتحاد الإسباني لكرة القدم يسلط عقوبة قاسية على نجم نادي إشبيلية    مدرب جنوب أفريقيا: صلاح قال لي إنه فوجئ باحتساب ركلة الجزاء لمصر    جريمة مروعة: وسط غموض كبير.. يقتل زوجته وبناته الثلاث ثم ينتحر..#خبر_عاجل    الرياض تحتضن الدورة 12 للجنة المشتركة التونسية السعودية    رئيس الجمعية التونسية لمرض الابطن: لا علاج دوائي للمرض والحمية الغذائية ضرورة مدى الحياة    مستخدمو التواصل الاجتماعي مجبرون على كشف أسمائهم الحقيقية    قابس: نجاح جديد بقسم طب العيون بالمستشفى الجامعي بقابس    عاجل/ تنبيه: انقطاع التيار الكهربائي غدا بهذه المناطق..    قابس: تقدم مشروع اصلاح أجزاء من الطرقات المرقمة بنسبة 90 بالمائة    عاجل/ بشرى سارة لمستعملي وسائل النقل..    حصيلة لأهمّ الأحداث الوطنية للثلاثي الثالث من سنة 2025    أبرز الأحداث السياسية في تونس في أسبوع (من 20 ديسمبر إلى26 ديسمبر 2025)    كرهبتك ''ن.ت''؟ هذا آخر أجل لتسوية الوضعية؟    المسرح الوطني التونسي ضيف شرف الدورة 18 من المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر    عروض مسرحية وغنائية وندوات ومسابقات في الدورة العاشرة لمهرجان زيت الزيتون بتبرسق    سيدي بوزيد: تحرير 17 تنبيها كتابيا وحجز كميات من المواد الغذائية    السكك الحديدية تنتدب 575 عونا    بعد ليلة البارح: كيفاش بش يكون طقس اليوم؟    مواعيد امتحانات باكالوريا 2026    الركراكي: التعادل أمام مالي كان محبطًا لكنه سيكون مفيدًا مستقبلاً    التشكيلة المحتملة للمنتخب التونسي في مواجهة نيجيريا    عاجل/ تعطّل أكثر من ألف رحلة جوية بسبب عاصفة ثلجية..    حجز 5 أطنان من البطاطا بهذه الجهة ،وتحرير 10 محاضر اقتصادية..    تايلاند وكمبوديا توقعان اتفاقا بشأن وقف فوري لإطلاق النار    تنفيذا لقرار قضائي.. إخلاء القصر السياحي بمدنين    مانشستر يونايتد يتقدم إلى المركز الخامس بفوزه 1-صفر على نيوكاسل    طقس السبت.. انخفاض نسبي في درجات الحرارة    رئيس وزراء بريطانيا يعلن عن عودة الناشط علاء عبد الفتاح    ألمانيا.. الأمن يطلق النار على مريض بالمستشفى هددهم بمقص    فرنسا.. تفكيك شبكة متخصصة في سرقة الأسلحة والسيارات الفارهة عبر الحدود مع سويسرا    مزاجك متعكّر؟ جرّب هذه العادات اليومية السريعة    المجلس الجهوي لهيئة الصيادلة بتونس ينظم الدورة 13 للايام الصيدلانية يومي 16 و17 جانفي 2026 بتونس    استراحة الويكاند    الإتفاق خلال جلسة عمل مشتركة بين وزارتي السياحة والفلاحة على إحداث لجنة عمل مشتركة وقارة تتولى إقتراح أفكار ترويجية ومتابعة تنفيذها على مدار السنة    نشرة متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة..#خبر_عاجل    قرقنة تكشف مخزونها التراثي: الحرف الأصيلة تحول إلى مشاريع تنموية    الأحوال الجوية: وضع ولايات تونس الكبرى ونابل وزغوان وسوسة تحت اليقظة البرتقالية    نصيحة المحامي منير بن صالحة لكلّ تونسية تفكّر في الطلاق    وزارة التربية تنظّم يوما مفتوحا احتفاء بالخط العربي    أيام القنطاوي السينمائية: ندوة بعنوان "مالذي تستطيعه السينما العربية أمام العولمة؟"    قائمة أضخم حفلات رأس السنة 2026    موضة ألوان 2026 مناسبة لكل الفصول..اعرفي أبرز 5 تريندات    4 أعراض ما تتجاهلهمش! الي تتطلب استشارة طبية فورية    القيروان: حجز كمية من المواد الغذائية الفاسدة بمحل لبيع الحليب ومشتقاته    بداية من شهر جانفي 2026.. اعتماد منظومة E-FOPPRODEX    جندوبة: انطلاق اشغال المسلك السياحي الموصل الى الحصن الجنوي بطبرقة    تونس: مواطنة أوروبية تختار الإسلام رسميًا!    أفضل دعاء يقال اخر يوم جمعة لسنة 2025    استدرجها ثم اغتصبها وانهى حياتها/ جريمة مقتل طالبة برواد: القضاء يصدر حكمه..#خبر_عاجل    البحث عن الذات والإيمان.. اللغة بوابة الحقيقة    نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية    روسيا تبدأ أولى التجارب للقاح مضادّ للسّرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.




نشر في الزمن التونسي يوم 01 - 03 - 2012


حاورته: أيلويز لايريتي و كاترين هالبيرن
ترجمة: المنتصر الحملي
في كتابه «التّوقيع البشريّ»La Signature humaine، يتحدّث تزفيتان تودوروف عن نفسه من خلال شخصيّات بارزة في الفنون والفكر. يرافقه في ذلك حدس بأنّ الإنسان لا ينشئ معنى إلاّ انطلاقا من تاريخه الخاصّ.
طيف طويل، نظرة بهيجة، تعبير متمهّل موسيقيّ: ذاك هو تزفيتان تودوروف، حضور قبل كلّ شيء، بانتباه وحماسة، يعيش حياته في شقّته البسيطة حيث استقبلنا. حدّثنا عن طفولته في بلغاريا، عن الاستبداد الشّيوعيّ، عن نفيه إلى فرنسا، عن أعماله الأولى حول الأشكال السّرديّة في الأدب رفقة رولان بارت.
أراد في ذلك الزّمن أن يبني نظريّة علميّة عن الأدب وليس أقلّ من ذلك، سائرا على الدّرب الثنائيّ، للشّكلانيين الرّوس واللّسانيات البنيويّة، على منوال ميخائيل باختين وريمان جاكبسون. لقد أصبحت كتبه: «مقدّمة للأدب العجائبيّ» (1970) و»شعريّة النّثر» (1971) و»نظريّات العلامة» (1977) كلاسيكيّات في الدّراسات الأدبيّة منذ نشرها.
«ثمّ تغيّرت الأمور» كما يبيّن هو ببساطة. فبعد أن قضّى عشرين سنة في الدّراسة الدّقيقة للأشكال الرّمزيّة، تحمّس للنّظر في العمق. ومن مؤرّخ للغزو الإسباني إلى مفسّر لمونتاني Montaigne وشارح للرّسامين الفلامنديين وباحث في الأخلاق ومفكّر في التّنوّع الثّقافيّ، تخلّى تباعا عن النّظريّة البنيويّة ليلج مواضيع سياسيّة وأخلاقيّة. «إنّ مجادلة الأفكار، الممنوعة في بلغاريا زمن طفولتي، قد غادرت المنطقة الحمراء»، كما همس لنا.
كتابه الجديد «التّوقيع البشريّ.. مقالات 1983-2008»، يشبهه؛ فهو مكهرب، ذاتيّ، وثاقب. يرمي بالقارئ في صميم وجود شخصيات نموذجيّة: جرمان تيليون Germaine Tillion، ريمون آرون Raymond Aron، إدوارد سعيد Edward Saïd، ريمان جاكبسون R. Jakobson، ميخاييل باختين M. Bakhtine، وأيضا لاروشفوكو La Rochefoucauld وموزار Mozart وستندال Stendhal وغوته Goethe. ومن خلال هذه اللّقاءات، يرسم تودوروف ضمنيّا، صورته الشّخصيّة، «رسما صينيّا»، يتشكّل من ميوله إلى الآخرين. وهو يؤكّد أنّنا «لا نفكّر إلاّ انعكاسا لآخر». بإمكاننا أن نقرأ هذا الكتاب على أنّه رواق لرسوم شخصياتِ رجال ونساء من الرّفاق الجيّدين، على أنّه معبد شخصيّ مخصَّص للهواة المثقفين. ولكنّ ما هو جوهريّ يكمن في مكان آخر. فتودوروف يعرض في هذا الكتاب أطروحة قويّة: وهي أنّ الباحث في العلوم الإنسانيّة، مثل الكاتب، لا يحلّل الوقائع إلاّ انطلاقا من حياته المعيشة الشّخصيّة. وبخلاف الباحث في العلوم الطبيعيّة، يجب عليه أن يزيل الجدار الفاصل بين حياته وعمله. لا يعني هذا مطلقا أن يستسلم لسراب التّأمّل الباطنيّ وأن يسعى وراء «أنا» أصيلة. ينبغي عليه فقط أن يراعي بوضوح اللّقاءات الّتي تشكّلنا: «نحن بالكامل نتاج للآخرين، لما قدّموه لنا، لانطباعاتهم وردود أفعالهم. لا وجود للأنا العميق».
تودوروف، الّذي ما عاد حقّا عالم علامات و»ليس فيلسوفا بأتمّ معنى الكلمة»، يتميّز دائما بمواهبه في التّأويل؛ فهو يضع ذكاءه كله في خدمة آثار الآخرين. ولأنّ تفكيره مشغول بالشّكّ فهو مؤثّر. إنّ انعطافاته النّظريّة، من السّيميوطيقا إلى الإنسيّة، واستطراداته حول الشّرّ، وابتداهاته (من البديهة) في الفنّ أو في الحبّ، وحماسته ومعاركه، كلّ هذا يمنحه صوتا متفرّدا في المشهد الفكريّ الأوروبّيّ. يقترن لديه التّواضع الفعليّ بطموح يفوق الحدّ، فهو يريد الإمساك بجوهر الإنسانيّة، لأنّه مقتنع بأنّ الحكمة البشريّة مرتهنة بهذه المعرفة. كان بإمكانه الآن – وهو في السّبعين من عمره – أن يتوقّف وأن يهتمّ بحديقته. لكنّه لا يفعل، بل يلزم نفسه على الدّوام بمشاريع جديدة، بندوات، بأبحاث، بكتب. «يبدو لي أنّه يمكننا السّير قدما في فهم البشر إلى ما هو أبعد. كلّ هذا ما زال حتّى الآن غير واضح تماما». إنّه عازم إلى أقصى حدّ على تقصّي وجهات نظرنا نحن البشر وانكساراتنا ونتوءاتنا. إليكم هذا اللّقاء.
ما مدلول عنوان كتابك الجديد «التّوقيع البشريّ»؟
– كنت قد فكّرت من قبل في هذه الصّيغة «التّوقيع البشريّ»، حين وجدتها في كتاب لجرمان تيليون. لقد أثر فيّ هذا التعبير لأنّه كان يلخّص – إذا صحّ القول – مسيرتي الخاصّة. فأنا أجد فيه نقطة انطلاقي، أي العلامة، ونقطة وصولي، أي الإنسان! كنت أريد أن أتفحّص وجوهها من خلال نظريّةٍ للغة، للأدب، للفنون. ثمّ سعيت إلى البحث عمّا يختبئ خلف العلامات. شعرت أنّني منجذب إلى فهم السّلوكيات البشريّة ذاتها، وليس فقط إلى فهم أشكال تعبيرها. وفي ذات الوقت، وجدت نفسي ضمن تقليد فلسفيّ هي الحركة الإنسانيّة. أنا أتساءل دائما عن طبيعة الاختيارات البشريّة، السّياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. ولكنّي مع ذلك لا أملك تعريفا مطلقا للإنسان، فأنا أدرس بالأحرى المواقف الكبرى الّتي يتّخذها النّاس في مواجهة التّحدّيات الّتي تعترضهم طوال وجودهم.
ترسم في هذا الكتاب سلسلة من الصّور الشّخصيّة لجرمان تيلّيون وريمون آرون وريمان جاكبسون وميخاييل باختين الخ... فهل حياة الكتّاب بإمكانها أن تلقي الضّوء على مؤلّفاتهم؟
– حين كنت طالبا، كان هناك شكل من الاعتقاد الدّوغمائيّ بأنّه لا بدّ لنا من معرفة «الإنسان» و»الأثر». كان أساتذتنا يسلّمون بوجود علاقة سببيّة بين المصير الفرديّ لكاتبٍ ما ومضمون كتبه. بيد أنّ جيلنا اعترض على هذا الاعتقاد. وكنّا في السّتّينات نعتبر أنّ حياة كاتبٍ ما، مهما كانت، تساعدنا قليلا في القراءة. كنّا جميعا، مثل مارسيل بروست، «ضدّ سان بوف Sainte-Beuve».. ففي المنظور البنيويّ ينصبّ الاهتمام على القوانين الّتي تفعل فعلها في الحكايات، على معاني القصيد الاستعاريّة، أمّا المرجعيّة السّيريّة فكانت تبدو لنا غير ذات جدوى. وأنا اليوم ما زلت لا أرى أنّ الحياة تفسّر الأثر، بل أرى أنّ «الحياة» بدورها أثر فنّيّ. بل إنّ حياتنا ليست سوى سلسلة من الأعمال، بعضها شفويّ وبعضها الآخر سلوكيّ، وإنّ التّفاعل بينها يحمل دلالة قويّة.
بأيّ شكل؟
– تُعتبر جرمان تيليون مثالاً واضحاً على ذلك. فقد قامت خلال الثّلاثينيات بدراسات في علم الأعراق، ثمّ عملت ميدانيّا في الجزائر. وبعد الهزيمة، انخرطت في المقاومة، فتمّ إيقافها وسجنها ثمّ ترحيلها إلى معسكر اعتقال. وعند عودتها، طُلب منها إعداد تقرير عن العِرْق الذي كانت قد قامت بدراسته، الشّاويّة. فتبيّن لها حينئذ أنّه من غير الممكن تكرار أطروحاتها السّابقة للحرب. وذلك على الرّغم من أنّها لم تتلقّ أيّة معلومة جديدة عن هذا العرق! إنّها هي الشّيء الوحيد الّذي تغيّر. فقد تعلّمت من حياتها في رافنزبروك Ravensbrück أن تفسّر السّلوكيات البشريّة بطريقة مغايرة: تأثيرات الجوع، مكانة الشّرف، معنى التّضامن. وهكذا تتدخّل هويّتها في نشاطها العلميّ. كذلك هو الحال في العلوم الإنسانيّة الأخرى. فما يصنع مؤرّخاً كبيراً أو عالم اجتماع عظيماً أو فضلا عن ذلك كاتباً، ليس مجرّد تجميع الوقائع بل هو إقامة العلاقة بينها، والمعنى الذي يضفيه ذلك عليها. ولكنّ ربط الصّلة هذا تنجزه الذّات مستعينة بجهاز ذهنيّ هو نتاج لوجودنا نفسه. فدراسة الأثر إذن لا تسمح بعزل هويّة العالم أو الكاتب. هذا ما أحاول إظهاره في «رسومي للصّور الشّخصيّة».
ما الذي قادك في حياتك الشخصيّة إلى إعادة توجيه تفكيرك؟
– الاندماج الأفضل في الإطار الذي كنت أعيش فيه، وفي المقام الأوّل تجربة الأبوّة. فعند ميلاد ابني الأوّل سنة 1974 اكتشفت بداخلي مشاعر جديدة، وقويّة بشكل مثير، حاملة معها أيضا مسؤوليّة كبيرة. في حياة شخصٍ بلا مرفأ اجتماعيّ – وخصوصاً بلا أبناء – يظلّ من الممكن التّفكيرُ في العمل – الأطروحة الّتي نكتبها مثلا – وكأنّه عالم قائم بذاته. أمّا إذا كنتَ تشعر دائما بأنّ ابنك يناديك فسيكون من الصّعب عليك أن تحافظ على حدّ عازل بين حياتك وتفكيرك. لقد كنت سعيدا بتجاوز هذه المرحلة من الانغلاق داخل عالم معزول من أجل البحث عن علاقة معبّرة بين ما كنته وما كنت بصدد الاشتغال عليه، دون السّقوط مع ذلك في السّيرة الذّاتيّة. وقد قادني ذلك إلى الاهتمام أكثر بالعالم الّذي أعيش فيه وليس فقط بالمعرفة المجرّدة.
في «التّوقيع البشريّ» تدرس الكتّاب من خلال موشور التّجارب المؤلمة الّتي مرّوا بها: المرض، الحداد، تجربة المعتقلات... فهل لا بدّ من المعاناة ليكون التّفكير؟
– هذا سؤال خطير، لا أجرؤ على تقديم إجابة عليه. لا لشيء، إلاّ لأنّي لم أعان كثيرا في حياتي... لكنّي ألاحظ بالفعل وجود ربط مزعج بين الهشاشة والمعاناة وبين القدرة على الذّهاب بعيدا في معرفة الإنسان. كما لو أنّ السّعادة يمكن أن تسدّ الطّريق أمام المعرفة الأكثر توقّدا... فإمّا أن تكون نظريّتي خاطئة وهذا شيء يريحني، وإمّا أن تكون صحيحة فأكون بذلك مفكّراً تافهاً! قد أكون أحاول التّعويض عن غياب تلك التّجربة المؤلمة عن وجودي الشّخصيّ من خلال شغفي بتجربة الآخرين، وخصوصا منهم الأشخاص الّذين عاشوا خلال مسيرتهم الانسحاق والهشاشة بل والمأساة. لا يستهويني الأبطال ولا «الأشرار». بل أفضّل فهم الأشخاص غير المعصومين عن الخطأ الّذين تكون حياتهم شبيهة ب «حديقة غير مثاليّة» وفق تعبير مونتاني. فهم كما يبدون لي يمثلون أكثر من غيرهم المنزلة الإنسانيّة.
كتبتَ تقول: «كلّ مثقّف هو منفيّ عن منزلته الأصليّة». أنت نفسك قد عشت تجربة المنفى من بلغاريا إلى فرنسا. ففيم يمكن لهذه التّجربة أن تساعد على التّفكير في العالم؟
– أعتبر نفسي «رجلا متغرّبا»، ليس فقط لأنّني استبدلت البلد بل كذلك لأنّني أميل إلى نظرة مربكة إلى العالم. بهذا المعنى، يختلف المثقّف عن المناضل. فلا يتمثل دوره في القيام بعمل في سبيل تحقيق هدف مّا، بل في فهم أفضل للعالم، ولهذا لا بدّ له من أن يتخلص من البديهيات. إنّ المنفيّ لا يقاسم الآخرين نفس العادات، فهو إذن يندهش ممّا يبدو عاديّا لدى أبناء بلده الجديد. يفضي المنفى إلى مسافة بين الذّات والوسط الاجتماعيّ الّذي تعيش فيه، وهي مسافة ملائمة للتّفكير، ولكنّها غير ملزمة! فالكثير من النّاس يشعرون بهذا الانفصال من دون أن يكونوا قد خاضوا تجربة المنفى الجسديّ. لنكتف بالقول إنّ استبدال البلد، حين يتمّ بلا مأساة، يساعد على تحقيق الانفصال الضّروريّ لعمل المثقّف، هذا العمل الّذي سيُنجَز بشكل سيّئ حين يكون المثقّف متداخلا مع الفاعلين الّذين يقوم بدراستهم.
ما علاقتك بالالتزام السّياسيّ؟
– كبرت في بلغاريا خلال السّنوات التي أعقبت الحرب. ولم تكن الشّموليّة التي تسودها تشجّع على الالتزام. فهي لم تكن لتسمح سوى بدربين؛ فإمّا أن تشقّ طريقك في صلب الحزب الشّيوعيّ، وإمّا أن تنصرف تماما عن الحياة السّياسيّة. وأنا اخترت مثل الكثير من البلغار هذا الدّرب الثاني. كنت أقيم قطيعة جذريّة بين «هم»، أعني من كانوا يديرون البلاد، وبيني. وهكذا تلقّيت نوعا من التّلقيح الذي أبقاني لفترة طويلة بمنأى عن أي اهتمام سياسيّ. ولكنّي تغيّرت بعد سنة 1973، وهي السّنة التي حصلت فيها على الجنسيّة الفرنسيّة. وبدأت شيئاً فشيئاً أشعر بأنّي معنيٌّ بالسّياسة. كانت المسائل المصبوغة بقيم أخلاقيّة وسياسيّة تثير اهتمامي؛ مثل الالتقاء بالآخرين، وأصول العنف، وتجربة معسكرات الاعتقال، وسوء استعمال الذّاكرة. بل إنّي كتبت كتاباً صغيراً عن حرب العراق! ورغم ذلك لم أصبح مناضلاً. فأنا لست منخرطا في أيّ حزب سياسيّ، ونادراً ما أوقّع على العرائض. ولكن يحدث أن أتّخذ موقفاً. من ذلك مثلا أنّي تدخّلت عندما تمّ الإعلان عن مشروع لبعث وزارة الهويّة الوطنيّة، لأنّ هذه الفكرة كما كانت تبدو لي غير متماسكة على الصّعيد الأنتروبولوجيّ، وضارّة على المستوى السّياسيّ.
أنت تعتبر نفسك معتدلاً سياسيّاً. ألا يمكن أن يكون المرء مفْرطاً في الاعتدال؟
– في التّاريخ الحديث، يمكن أن يكون مؤتمر ميونيخ سنة 1938 المثال النّموذجيّ على «الاعتدال» المفرط. فقد حاولت القوى الغربيّة حينها مداهنة الاعتداء النّازيّ وتنازلت. فهل كان ذلك حقّاً موقفاً معتدلاً؟ لقد كان بالأحرى عملاً قصير النّظر. ذلك أنّ تجنّب العنف لا يكون مناسبا إلاّ حيث لا يكون هناك خطر حقيقيّ. بيد أنّ التّهديد الهتليريّ سنة 1938 صار جليّا لكلّ من كان يريد رؤية الحقيقة. أمّا من ناحيتي، فأنا أجد نفسي في شكل آخر من الاعتدال. فلا شرعيّة لأيّة سلطة ليس لها حدود، كما علّمنا مونتسكيو. الاعتدال بمعناه القويّ ليس هو التّراخي بل هو الحدّ من كلّ سلطة من السّلطات من خلال سلطات مضادّة. إنّه تنظيم للفضاء العموميّ يراعى فيه التّنوّع البشريّ. لا تنازل إزاء العنف إذن بل على العكس تماما. وضمن هذا العقل ذاته أدافع عن ما أسمّيه الحضارة، أي عن قدرتنا على الاعتراف باختلافات الآخرين دون تحقيرها بالضّرورة. فهل أكون رغم ذلك مفرطا في اعتدالي؟ أترك لكما الحكم...
تعود مرّاتٍ عديدةً في كتابك إلى مسألة الشّرّ. ومن وجهة نظرك الشّرّ منغرس عميقا في الطّبيعة الإنسانيّة. فإذا كان الشّرّ في باطن كلّ واحد منّا، فكيف يمكن مقاومته؟
– أنا لا أومن بوجود «شرّ» كونيّ وثابت، ولكنّنا في الحقيقة نعثر ثانية على مختلف أشكاله في كلّ مرحلة من مراحل التّاريخ. يتأتّى الشّرّ من أنّ كلّ شخص يحتاج إلى الآخرين ولكنّ هؤلاء لا يعطونه طوعا ما يرغب فيه. إنّ هذه المركزيّة الذّاتيّة تكون خطيرة بشكل خاصّ عندما تصبح جماعيّة. فأفظع الجرائم هي الّتي ارتُكبت في سبيل حماية «ذوينا» من خطر داهم من مواضع أخرى. إنّ هذه المانويّة الّتي تخلط «نحن والآخرين» مع «الصّديق والعدوّ» أو – وهذا الأسوأ – مع «الخير والشّرّ» هي مانويّة قاتلة. لهذا السّب، أرصد هذه الأشكال وكذلك طرق مقاومتها، وأرويها في كتبي. بهذا المعنى أظلّ قريبا من أفكار الأنوار : أقاوم الشّرّ عن طريق المعرفة.
(*) – الحوار منشور في مجلة العلوم الإنسانيّة «Sciences Humaines» الشّهريّة، عدد 210، ديسمبر، 2009. تحت عنوان «Le travail en quête de sens».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.