كان الولد عاقاً في شكل جنوني، يضرب والدته ويعنفها في اثناء الليل وفي أطراف النهار، الي ان سدد اليها يوماً ضربة قاتلة. تقدم خطوة نحو الجثة الممددة وقد غابت عنه معاني الإدراك ومراتب العقل والبصيرة فذبحها وشق بطنها وانتزع الكبد وأشعل نار الشواء، وأثناء تقليبه علي النار الحامية، احترقت أطراف أصابعه فصرخ قائلاً أح ، فنطقت الأم الممددة الي جانبة اللطف علي كبدي ... يندر ان يكون هناك تونسي أو أفريقي لم يستمع بانتباه ورعب شديدين الي هذه القصة التي يتناقلها الجميع من الجدات الي أمهات الألفية الثالثة. فهذه الأسطورة تعد أم الحكايات ورمزاً حياً من التراث الشعبي الذي لم تمحه آثار السنين. سقط الولد مغشياً عليه ومات وقلبه ينفطر دماً لإحساسه بالذنب تجاه أم أشفقت عليه فقتلها وشوي كبدها. وتخليداً لها بني القدامي في مكان منزلها حماماً يتطهر فيه كل من طلب الطهر... وسمي حمام الكبدة في زقاق الكبدة في المكان الشعبي ما بين محلتي باب سويقة وباب الخضراء مركز الحياة في تونس العتيقة. يقال ان ما بين المقهي والمقهي في تونس يفتح مقهي جديد كفضاء للتكاتف الاجتماعي ولعب الورق وقتل الوقت. وتستقطب ملاعب كرة القدم ومقاهي الانترنت اهتمام الجيل الجديد، وبدأت النساء في ولوج عوالم الرجال، ولكن الحمام العربي التركي الأصل، يبقي فضاءهن الجميل في سعيهن نحو التطهر والجمال، وسورهن العالي والواقي من أعين الرقيب ومحطة انطلاق أحاديثهن ومكامن أسرارهن التي تختلط وقائعها بالخيال والمكبوت منها بالمباح فتنساب الحكايات وتكبر الأساطير لتعانق آفاق المخيلة وذروة الدهشة. وعلي رغم الخطوات المهمة التي قطعتها تونس علي درب الحداثة وبريقها الاستهلاكي، فإن موجة جديدة أخذت تطرق بقوة أذواق التوانسة وتفاصيل حياتهم اليومية في بحثهم عن التوازن المنشود بين هويتهم وانفتاحهم. فعادت القهوة العربية و القعدة العربية و الماكلة (الأكل التونسي القديم)، والهندسة المعمارية القديمة. ومع كل التطورات المدينية ووصول المياه الي المنازل كافة ورواج موضة العلاج بالمياه في الفناذق الفخمة، الا ان الحمامات العربية في الأزقة والحارات الشعبية ما زالت تحفل بروادها من الجنسين ومن مختلف الأعمار، وتشهد ذروة زينتها في موسم الأعراس. يبدأ الدوام الرجالي في الحمامات عند الساعة الرابعة فجراً ويستمر الي الواحدة بعد الزوال، ليصبح الديكور نسائياً الي الثامنة ليلاً. تعتلي الحارزة كرسياً خشبياً عتيقاً علي يمين باب الدخول الي الحمام وتقبض الأموال التي لا تتجاوز الدينار ونصف الدينار، وترتفع الي الخمسين ديناراً للعروس وأهلها مجتمعين. وبعد ايداع الحلي والأموال تقتطع الداخلة الي الحمام تذكرة لدي الطيابة التي تعرف مكامن العرق وتفاصيل تنشيط الدورة الدموية. وفي دكانها الصغير تبيع الشامبو وزجاجات المشروب المنعش عند الانتهاء من الاستحمام. وعلي اليمين والشمال عند المدخل أماكن للاسترخاء. تتقدم خطوة فتجد بيت السخون والمياه الدافئة والبخار للتعرق بعدما تغيب الصورة حفاظاً علي الستر وقواعد الاحتشام التي لم تخرقها سوي الموجة الجديدة من الأفلام التونسية من عصفور السطح للنوري بوزيد الي حمام الذهب بلاع الصبايا للمنصف ذويب... وجاء في مقدمة هذا الفيلم القصير: لا يزال حمام الذهب الواقع في ضاحية باب سويقة الشعبية مفتوحاً ولا تزال جماعات النساء تتردد علي مطاهره علي رغم يقين الغالبية بأنه يبتلع الصبايا. وبحسب الأسطورة يعود بناء هذا الحمام الي أم شقية أنزلت ابنتها في فتحة أرضية تبحث عن كنز فراودها ابن الجان الأحمر وابتلعتها الأرض وبقي شعر الصبية ينبت في كل ليلة من بين شقوق أرض الحمام والأم المسكينة تقصه في كل صباح حتي تحفظ السر دفيناً... والي اليوم تصرح النسوة بأن الاغتسال في هذا الحمام يستوجب الحذر، إذ يحدث تحت تأثير الحرارة ان تصغي الصبايا الي نداء الأعماق... لا يهم كثيراً، إن اختلفت رؤية الفيلم عن نسق الأسطورة، لكن حمام الذهب قرب سيدي محرز في المدينة العتيقة لا يزال أحد حمامات النساء العريقة في تونس التي ارتفع اثنان منها الي درجة التراث الانساني الذي يحظي بعناية اليونيسكو، وهما حمام الرميمي وحمام صاحب الطابع الذي انشأه الوزير يوسف صاحب الطابع سنة 1221 للهجرة بعدما تبين له أن بناء المسجد المجاور له يتقدم ببطء لأن العملة (العمال) لا يقبلون علي مواصلة البناء عندما يصبحون عل جنابة فأمر ببناء الحمام كسباً للوقت وطلباً للصدقة الجارية التي جمعت ما بين الحمام للطهارة والمسجد للصلاة والدعاء. تقول بائعة المسواك والطَفل في حمام الرميمي ان صبية خطبت لابن عمها الذي أحبها كثيراً، ومن فرط هذا الحب اشترط ان تذهب الي الحمام في الرداء الخاص به، فالتفت العروس بالرداء وذهبت الي الحمام، وبعد اغتسالها دخلت الي المطهرة وذهبت النساء الي قضاء حاجاتهن وتركنها وحيدة، وعندما رجعن لم يجدنها وبقين في حيرة يتساءلن عن اختفائها وينادينها وهي تكلمهمن من داخل الجدار وتقول اني هنا ... فذهبن الي زوجها وأخبرنه بالفاجعة فجلب الفأس وهو يردد يا حمام الرميمي يا بلاع الصبايا أتتك بنت عمي ملفوفة في رداي... وكلما هدم جداراً تنطق الصبية اني هنا ... ولكن رجاءه خاب ومات حسرة علي عروسه، وصمد الحمام سبعة قرون ونيفاً وتناقلت النساء الأسطورة الي اليوم. وكان لافتاً في احد الانتخابات الاشتراعية التي شهدتها تونس في بداية التسعينات تركيز احدي الحركات السياسية في حملتها الانتخابية الموجهة للنساء علي توزيع برنامجها الانتخابي عبر نسائها في الحمامات، فكانت ضربة معلم سياسية وآلية طريفة فاجأت الجميع... فالحمامات ما زالت تزدحم بالنساء وهي الموقع الرئيس لمحادثاتهن وحكاياتهن وأساطيرهن في بحثهن عن الثروة والذهب وفارس الأحلام.