أبو مازن الثورة رياح عاصفة تهزّ كيان المستبد وتلقي به الى مزبلة التاريخ بعد أن قلّمت أظافره التي كان يبطش بها فاسترجع العباد حرياتهم واختاروا نمطا مدنيا منظما يسوسهم و يحميهم من مستبد جديد قد تحمله الأقدار الى أرضهم. الثورة لا تدار كما اتفق مهما كان نوعها حتى لا تتحول الى فوضى فهي تعتمد على نصوص الدستور أو المراسيم أو القانون أو الأعراف الدولية أو ما شاع من العادات والتقاليد فلا تضطرب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و الثقافية في البلد كي يحافظ على كيانه و ادارته وأرشيفه وقواته المسلحة وهوامش حدوده و بحره وهوائه فلا يطمع فيها الطامعون ولا يتربص بها الأعداء. عشنا مثل هذه الفترة ابان هروب المخلوع حيث استعمل الفصل السادس والخمسون فالسابع والخمسون ثم حلّ مجلس نواب المخلوع نفسه لتصدر مراسيم تنظيم السلطة والانتخابات والدعوة الى التأسيس. لم يهرع غالبية التونسيين الى الانتقام و الاستيلاء على ما يملك أهل الفساد و الافساد بل طرحت مجمل هاته القضايا على مجامع القضاء و الهيئات المركزة ولولا الارهاب الذي هبت رياحه بما لا يشتهيه التونسيين لقطعنا أشواطا هامة في رد الاعتبار للدولة المدنية الديمقراطية ذات الهيبة التي تمارسها على ترابها فتضرب على يد الجاني و ترأف بمواطنيها. لم يكن التونسيون ميّالون للفوضى في أحلك فترات الثورة بل كانوا متضامنين متآزرين في الخير يحمون أحياءهم و يوفّرون أقوات عيالهم في كنف مطلبين أساسيين : الحرية والكرامة. ما حدث في جمنة صيحة ثورية أمام الفساد و "التكمبين " و القوائم التي لم و لن تكشف حيث يعرف المزاد صاحبه فيصيبه وان لم يحضر وتعرف المناقصة صاحبها ولو لم يمضي. ما حدث في جمنة يحدث في أغلب ضيعات الدولة التي تنتج التمر والزيتون و القوراص و غيرها قبل الثورة وبعدها اذ أنّ نفوذ الفائزين بهذه الخيرات قوي لم تقاومه الدولة في أوج قوتها فكيف لها به بعد ثورة عطلت هياكل الدولة و جعلتها مفتقدة للقرار ولآليات تنفيذه. لكن هذه السنة كان الأمر مختلفا اذ حضر نواب الشعب لمراقبة الوضع عن كثب و كشف ملابسات الاستغلال ثم تحول الأمر الى بتة يبيع فيها من لا يملك ما لا يملك و يقبض سعرا أفضل بكثير قد لا يرجع الى الدولة. هنا تصادمت القوانين بالحراك الثوري الذي أتى بالنواب و حرّك المتساكنين والعاملين في هذه الضيعة فكشف حقيقة الانتاج وحجم الفساد ولكن بأي طريقة؟ أمّا التشهير بما وقع ولا زال يقع من فساد لرزق "البيليك" فهو أمر محمود فمثل هذه الحادثة قد تحرك المنتفيعين دون غيرهم بفواكه و منتجات الأراضي الدولية الى رفع الأثمان و تقديرها تقديرا جيدا لا لبس فيه فتنتفع خزينة الدولة. وقد تحرك أيضا السلط التشريعية بحضور النواب فيسعون الى ضبط تحيين قوانين ادراة و استغلال هذه الأراضي و من ثم تحديد أسعار مقبولة لمنتجاتها. مثل هذه الحادثة قد تروج لاقتصاد اجتماعي تضامني تراقبه الدولة فلا يصبو الى تكوين أباطرة فساد جدد بل مستفيدين يشغلون يدا عاملة و يُربحون الدولة أموالا كانت ضائعة في حسابات بالخارج. أمّا أن تتحول تحت تأثير العاطفة الثورية والتفكير البسيط و المتحامق الى بيع فعلي يرفع فيه المشتري بضاعته ويقبض البائع (الذي لا يملك) أموالا فذاك عين الفوضى و عين الفساد و أكل اموال الشعب بالباطل دون وجه حق. انّ السكوت على مثل هذا الصنيع قد يجرّ قطاعات عدّة الى اتباعه فيستقل أهل الفسفاط بفسفاطهم وأهل البترول ببترولهم وأهل الملح بملحهم و يضيع البلد بأسره فلا تقوم له قائمة بعد ذلك ويدخل في طيّات عصور الظلمات و ما فيها من اغارة و ثأر و انتقام و جهل و تقاتل. لا يفلح الثورجيين ان سلكوا هذا المنحى الذي قد يعبّر ظاهريا عن كشف للفساد ولكنه يرمي بنا في أحضان فساد أكبر و فوضى تهوي بما صنعت الثورة الى أسفل المراتب. لقد وصلت الرسالة بمثل هذه الحادثة لتراجع الدولة قوائم أملاكها و كيفية التصرف فيها ولكن البيع الذي صار يعتبر لاغيا لا يُعتمد فلا تتلوه محاولات ثانية تسير على خطى ما حدث في جمنة. أما النواب الذين حضروا البتة و هللوا لها لمّا اعتبروها انجازا فقد بحثوا عن شعبوية يقتاتون منها أصواتا على عجل اذ أنّ المطلوب آنيا هو كشف الفساد و تحصين أموال الدولة تحت رعاية أجهزتها وفي ظل قوانينها حتى لا ينخرم الأمر فنربح بتة التمر ونخسر بتّات و بتاّت ثم نخسر البلد بأسره.