بقلم: مهدي الزغديدي كيفما اليوم 7 نوفمبر 1911 وقعت في تونس مصادمات بين المواطنين التونسيين وجيش الحماية (الإحتلال) الفرنسي عرفت باسم أحداث مقبرة الجلاز. يرتبط يوم 7 نوفمبر لدى التونسيين بذكرى استيلاء زين العابدين بن علي على السلطة بعد الإنقلاب على الحبيب بورقيبة عام 1987. وقد فرض الإحتفال بالسابع من نوفمبر من كل عام احياءا لما سمّاه "التحوّل المبارك" لمدّة 23، حتى قامت عليه ثورة شعبيّة وتمّ خلعه بعد خروجه من البلاد مسرعا متوجها إلى المملكة السعوديّة يوم 14 جانفي 2011. وقد أدّت هذه الإحتفالات سنويّا إلى طمس أحد الذكريات المهمّة في تاريخ الحركة الوطنيّة التونسيّة التي تعتبر أولى المصادمات العنيفة والدمويّة ضدّ المستعمر الفرنسي. مقبرة الجلاز أو "الزلاج" كما ينطقها التونسيّون هي المقبرة الرئيسية في مدينة تونس وتقع على المدخل الجنوبي، وكان يؤدي إليها باب عليوة وهي مقبرة تاريخية تعود إلى العهد الحفصي، وتنسب إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن عمر بن تاج الدين الزلاج والمتوفى عام 1205. ولم تكن مقبرة الجلاز، المطلة على العاصمة التونسية بمساحتها الفسيحة أعلى ربوة بارزة، مجرد مرقد لمن وافتهم المنية من التونسيين، بل هي مكان ذو تاريخ مشبع بالرمزية كتب بعضه في الماضي، و مازال إلى اليوم يشهد تتمة سطور فيه لا يعلم أحد منتهاها. وتمتاز مقبرة الجلاز بكبر مساحتها الدائرية التي يحفها سور أبيض يسمح برؤية انتشار القبور فيها على مد البصر حتى تعانق أعلى تلة بهذا المكان. وقد ووري الثرى بمقبرة الجلاز عدد كبير من أعلام تونس في العهد المعاصر، لذلك ينظر إليها التونسيون كأحد دفاتر تاريخهم. وبالإضافة إلى مكانتها التاريخية التي حفظت هيبتها في قلوب التونسيين والذاكرة المجتمعية هناك، فإن هذا المكان لطالما حف بقيم روحانية في وجدان التونسي، حيث كانت لهذه المقبرة على الدوام ومنذ بدايتها مكانة دينية كبيرة. لم يحدث منذ أن دخل الإستعمار إلى تونس أن شهدت العاصمة مواجهات عنيفة مع جيش الإحتلال الفرنسي ومعاونيه في تونس باستثناء مظاهرة الحرفيين سنة 1885 وإضراب الزيتونيين سنة 1909. ففي مثل هذا اليوم 7 نوفمبر 1911 فوجئ سكان العاصمة بتطويق الأمن التابع لسلطة الحماية لمداخل مقبرة الجلاز لتمكين احد الأعوان من أخذ قياسات مساحة المقبرة استعدادا لتسجيلها بالسجل العقاري وبالتالي ملكيتها وهو ما اعترض عليه التونسيون قبل أسابيع من الحادثة خوفا على مصير المقبرة التاريخية وغيرة على جثامين أهاليهم و أجدادهم التي ترقد بسلام منذ قرون في الجلاز. وكانت تلك الحادثة شرارة للمواجهات العنيفة التي اندلعت يومها بين التونسيين والجندرمة ثم بين التونسيين والايطاليين على خلفية مقتل شاب تونسي برصاص ايطالي واحتجاجا على بداية الغزو الايطالي ليلبيا مخلفة عشرات الشهداء الذين دخلوا بطريقة عفوية في مواجهة مثّلت دافعا للحركة الوطنية ونقطة تحول جوهرية في التفكير لتصعيد مواجهة الاستعمار. استمرّت المواجهة يومين وأسفرت عن مقتل العديد من الطرفين. أقيمت عام 1912 محاكمة ل74 شخصا من المشاركين في المصادمات وحكم على 7 منهم بالإعدام وعلى 18 بالأشغال الشاقة. نصبت فرنسا المقصلة لأوّل مرّة في تونس للوطنيين في ساحة باب بو سعدون العامّة، وما زال التونسيون يرددون مناحة أم الجرجار التي عاشت فصل رأس ابنها عن جسده في مشهد رهيب، ومن يومها هامت تلك المرأة المريميّة على وجهها حافية، هاذية في شوارع تونس. (اليوم أصبحت تلك المناحة أغنية يرقص على أنغامها بعض التونسيين دون أن يعرف معناها). ورغم الأهمية البالغة لذكرى 7 نوفمبر 1911 في تاريخ تونس و في تاريخ الحركة الوطنية فأن هذه المعركة كادت تهمل بين طيّات احتفال بن علي بذكرى اعتلائه للحكم في نفس اليوم من عام 1987، احتفال كان لا مجال فيه لترديد عبارات الموت والترحم والعودة إلى ما قبل 87. ومازال العديد من التونسيّون يجهلون هذه الأحداث التي أثبتت للمستعمر تشبّثث التونسيين بدينهم ومعالمهم وتراثهم وإن سالت من أجل ذلك الدماء وقطعت الرؤوس. ومازال يقف النصب التذكاري بباب عليوة لأحداث مقبرة الجلاز شامخا ليشهد على أولى الاحتجاجات الشعبية في العاصمة في وجه الاستعمار الفرنسي.