بقلم: فاخر الرويسي تعتبر انتفاضة الزلاّج حلقة من حلقات الثورة و المقاومة الشعبية التي عاشها الشعب التونسي ، ومحطة مشعة عبر مراحل كفاحه ضد المستعمر منذ انتصاب الحماية. فهي نتاج طبيعي، لشعور تلقائي لشعب تنامى وعيه و غضبه وكراهيته للغاصب. وتعبير صادق وصريح لملحمة عبرت عن تضامن عربي، وتآخ تونسي ليبي ضد الاستعمار. فكر محمد الزلاّج القيرواني (1) في شراء منزل بتونس العاصمة ، فأوفد أحد غلمانه الذين يثق بهم لاقتنائه. وسلم له المال اللازم لذلك .وعند دخول الغلام جامع الزيتونة الأعظم. « شاهد صفوفا من جنائز الموتى جاء بها أهلها للصلاة عليها ،فدفعته عاطفته الدينية للخروج وراء الجنائز مع المشيّعين» (2). صدم الغلام نتيجة انتشار الأوبئة و تكاثر الأمراض والأموات، فأقنع سيده بضرورة التدخل لفعل شيء ينفع ،يقربه من اللّه عبر إقامة مقبرة شاسعة ،تدفن فيها أموات المسلمين. .وأوعز إليه باقتناء أرض شاسعة(هنشير) من احد اليهود، سميت ب «جبل التوبة».وتمت عملية البيع. تبرع الرجل الميسور محمد الزلاج ل«جمعية الأوقاف» (الحبس) بالمقبرة لتسخيرها لدفن المسلمين وهي ارض محاذية لجبل الجلود، خارجة عن منطقة باب عليوة ،أو «باب علاوة» كما سميت سابقا إلا أن جمعية الأوقاف عجزت عن تسيير شؤونها، لانعدام مواردها المالية، فأحالتها إلى بلدية العاصمة أو «بلدية الحاضرة» لتهيئتها، والعناية بها. حظيت هذه المقبرة بتقديس واحترام التونسيين، لا لأنها مقبرة خاصة بهم، بل لأن العديد من رجال العلم والدين دفنوا فيها. كما كانت مغارة يؤمها رجل فقيه يدعى «أبي الحسن الشاذلي» (3) يدرّس فيها تعاليم الدين وأصوله وبالذات طريقته التي سميت ب «الشاّذلية»، التي كان يتبعها غالبية سكان العاصمة. وقد أصبحت هذه المغارة بعد موته زاوية يؤمها العديدون بعد أن تولى الوزير مصطفى خزندار (4) بناءه. أصبحت المقبرة قبل وبعد الاستقلال ،ملتقى للتبرك والمدائح والأذكار والتقرب لله ،وكذلك قبلة للزائرين المتبركين بساكنها الورع «سيدي بلحسن» إلا أن البعض من الفرنسيين والايطاليين، تحت غطاء انتمائهم لمجلس بلدية الحاضرة ، قرروا الاستحواذ على جزء من المقبرة وترسيمها بالسجل العقاري وتحويل ملكيتها من أراضي « الحبس» إلى الأملاك البلدية، متعللين بالمحافظة عليها، وحمايتها من بعض المواطنين، الذين يستغلون جزءا من ارض الوقف(الحبس)، لاقتطاع الحجارة منها. لكن العصابة العنصرية المتطرفة المنتمية للمجلس البلدي كان لها نية تمرير خط «الترامواي» التي تملكه، مما أجج نقمة التونسيين وسخطهم على الشركة التي حرمتهم العمل بها. كان الفرنسيون يمثلون أغلبية أعضاء مجلس البلدية رغم أن شيخ المدينة رئيسها تونسي وهو السيد الصادق غيلب الذي عينته فرنسا لثقتها فيه كراع لمصالحها ومصالح الأوروبيين بها. بعد أن قامت البلدية بالإجراءات الإدارية اللازمة والمنصوص عليها قانونا والتي من بينها الإعلان و إشهار عملية التسجيل ، سخر السيد الصادق غيلب (5) كل الإمكانيات من لافتات و معلقات أمر بإلصاقها بالأماكن العامة بكل أحياء العاصمة لإشهار العملية . كما أن جدران المقبرة وقع استعمالها للغرض ، بحماس تحريضي محير، يوحي بتراجعه عن ولائه لفرنسا وعودة وعيه بعدالة القضية التونسية وتعبيرا منه على مؤاخذته للفرنسيين المنتمين للمجلس البلدي الذين لم يأبهوا بملاحظات زملائهم التونسيين بالمجلس. ووقع استدعاء المواطنين للحضور بالمقبرة لمتابعة عملية القيس و التسجيل ليوم 7 نوفمبر 1911، دون احترام شعورهم بعروبتهم وإسلامهم ،ودون اعتبار التوقيت السياسي وجو البلاد المكهرب آنذاك ولم تتخذ الإجراءات والتدابير المعمول بها ،إذ عادة ما كانت الأوامر والإعلانات تمرر وتشهر عن طريق «البرّاح» الذي كان يسهل العمليات الاشهارية في شتى المجالات ويوصل أدق المعلومات للمواطن كزواج فلان من فلانة أو وفاة فلانة أو فلان وغيرهما من الإعلانات، أينما تواجد المواطن ،بكل الأحياء، وبكل جهات البلاد التونسية. وللتذكير فإنه وقبل شهرين اندلعت «الحرب الطرابلسية» وهجم الطليان على مدينة طرابلس الغرب يوم 29 سبتمبر 1911 . فكان لهذا العدوان الفاشي صداه البعيد وتأثيره العميق في نفوس التونسيين حيث « انتفض الشعب عن بكرة أبيه للتصدي لغطرسة الاستعمار،وشرع في إعداد العدة و إعانة المجاهدين بما في المستطاع. وتألفت اللجان والجمعيات لجمع التبرعات والأسلحة للأشقاء الطرابلسيين المكافحين .وتقاطرت القوافل المحملة بالمؤن والذخائر تشق الحدود الجنوبية في طريقها إلى طرابلس بالرغم من الحراسة المشددة من طرف الفرنسيين الذين كانوا يحاولون منع الإعانات عن المجاهدين الطرابلسيين مساعدة منهم لايطاليا على احتلال البلاد.وقد شارك في هذا الكفاح جماعة من المتطوعين التونسيين الذين مات كثير منهم على ارض طرابلس الشقيقة» (6) وما تجدر الإشارة إليه في هذا الشأن هو ان ممثلين عن «جمعية الآداب العربية» بعثوا برسالة إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي بتاريخ2 أوت 1911 يطلبون فيها المساعدة للتطوع للقتال في سبيل طرابلس على اثر الاعتداء الايطالي. فعلت العملية الإشهارية فعلها في الصفوف الشعبية وانتشر الخبر بسرعة مذهلة، فتتالت الاحتجاجات، وعبر التونسيون بمختلف اتجاهاتهم عن معارضتهم لهذا القرار الجائر والذي يمس بكرامتهم وشعورهم. ولعل ما زاد في تأجيج نار الغضب الشعبي،الخطب المحرضة ، التي كانت تلقى بجامع الزيتونة والجوامع والمساجد الأخرى العديدة المتفرقة . وفي اجتماع المجلس البلدي يوم 2 نوفمبر 1911 تدخل السيد عبد الجليل الزاوش، بقوة لإقناع زملائه بالعدول عن عملية التسجيل وأكد على خطورة رد فعل الجماهير، محذرا المجلس من مغبة الإصرار على ذلك ، مما حدا بأعضاء المجلس الى التراجع عن القرار وسحب مطلب التسجيل. ويوم 6 نوفمبر 1911 ، بجامع الزيتونة ، ولتهدئة الأجواء ،أعلم شيخ المدينة رئيس البلدية السيد الصادق غيلب المصلين والطلبة أن البلدية قد تراجعت عن مطلب التسجيل. غير أن جماهير الطلبة والمصلين اعتبرت هذا التصريح حيلة وخدعة ،لتمرير القرار البلدي . ومن الغد اي يوم 7 نوفمبر 1911 احتشد المواطنون أمام المقبرة وكان عددهم يتراوح حسب بعض المراجع ما بين 3000 و 10.000 نفر. فوجدوا أبوابها موصدة، وعاينوا التواجد المكثف لأعوان البوليس. ممّا زادهم اقتناعا بان البلدية عاقدة العزم على إجراء عملية التسجيل. وسرعان ما تحول التجمهر إلى رشق بالحجارة ، و مواجهة وصدام مع البوليس، خصوصا عندما علم المواطنون بمقتل طفل عمره 12 سنة يدعى رابح بن عمر دقلة(7) ، على يد ايطالي. عندها لما تأكد قائد البوليس انه فقد السيطرة على الوضع، استنجد بفيلق من «عسكر زواوة» الذي أطلق النار بكثافة على المواطنين فتساقطوا بين قتلى وجرحى . لم تنته المعركة بعد، إذ تعمد التونسيون رد الفعل بملاحقة الجالية الايطالية التي كانت أغلبيتها تقطن بالأحياء المجاورة للمقبرة ك «باب الفلّة» و«باب عليوة» والأنهج المحاذية ، ونكلوا بهم . قتل أكثر من 12 فرنسيا وايطاليا بالسكاكين وبالحجارة والعصي الغليظة. ولم تنته المعركة إلا في المساء بعد أن وقعت مطاردة المتظاهرين. فأوقفت السلطات الاستعمارية أكثر من 800 متهم،مثل 72 منهم أمام المحكمة الفرنسية الجنائية وألحقت بهم تهم العصيان المدني ، و القتل والمشاركة فيه والنهب وغير ذلك من التهم الخطيرة. «عقدت المحكمة الجنائية 48 جلسة ،انطلقت أشغالها من يوم 3 إلى يوم 30 جوان 1912» (8) واشتهر من بين الموقوفين الشابان ،الشاذلي بن عمر القطاري(21 سنة) الذي اتهمته المحكمة بالعصيان المدني وبقتل الايطالي «موتشيو» وسرقة متاعه وبقتل عون ايطالي اسمه «فرانكي» وشهد على ذلك شخص ايطالي يدعى «بلداكينو» والمنوبي بن علي الخضراوي شهر الجرجار(31 سنة) الذي اتهمته المحكمة بالعصيان المدني ومحاولة قتل البوليس «فواتي» وبقتل العون الايطالي «فرانكي» بهراوة. وشهدت على ذلك امرأة ايطالية تدعى «فرانشيسكة جينو فيزي» التي قالت : «ولا يمكن أن تمحى صورته من ذهني إذ كان في اللحظة الرهيبة يتبول على جثة القتيل» (9) أصدرت المحكمة الجنائية الفرنسية بعد ذلك حكمها بالإعدام في شانهما وشان 5 آخرين : عبد الله والي و محمد الشاذلي ومحمد الغربي و محمد القابسي والجيلاني بن فتح الله. ورغم أن المراجع لا تتفق في عدد القتلى والجرحى من الجانب التونسي والايطالي فانه من المتأكد انه بلغ المئات. وللحقيقة، فان شهادة عبد الجليل الزّاوش العضو البلدي طيلة المحاكمة كانت في غاية من الشجاعة والوطنية شأنها شأن شهادة السّيد الصّادق غيلب ،إذ أن كلاهما لم يشهّر بأي من الموقوفين. بل إجتهد، كل بطريقته، لتقديم المبررات اللازمة لتبرئة المتهمين. وقد كان لحادثة الزلاّج وهذه المحاكمة، الوقع الشديد على عامة الشعب التونسي، وعلى الشعراء الشعبيين الذين عبروا عن ذلك في قصائدهم وملزوماتهم، باعتبارها انتفاضة شعب، شعر بالضيم والهوان، فرد الفعل ضد غاصب أراد تشويه هويته وطمس عقائده، وزعزعة مشاعره . وقد نفذ حكم الإعدام يوم 29 أكتوبر 1912 على مجموعة السبعة الشبابية وفي مقدمتهم القطاري والجرجار. (1) محمد الزلاج القيرواني: ثري ،تقي ورع أصيل مدينة القيروان. (2) الجيلاني بالحاج يحيى ومحمد المرزوقي: معركة الجلاز ص 17 (3) أبو الحسن الشاذلي المغربي : زاد ،صوفي ولد سنة 571 ه، ينتمي الى طريقة الشاذلية. مكث بتونس ثم زغوان.ذاع صيته ورحل إلى صحراء مصر أين توفي سنة 656 ه. (4) مصْطَفَى خَزْنَدَار (اسمه الأصلي هو جيورجيوس سترافلاكيس Giorgios Stravelakis سياسي تونسي من أصل يوناني، ولد عام 1817 بقردميلة بجزيرة خيوس وتوفي في 26 جويلية 1878 بمدينة تونس. (5) الصادق غيلب: شيخ مدينة تونس ورئيس البلدية (6) معركة الجلاز :الجيلاني بالحاج يحيى ومحمد المرزوقي الشركة التونسية للتوزيع 1974 (7) Med Salah Lejri : Evolution du mouvement national Tunisien P 146 (8)Roger Casemajor :L'action nationaliste en Tunisie .Sud Editions Tunis P.57 (9) معركة الجلاز ص 79 (الجيلاني بالحاج يحيى ومحمد المرزوقي) (10) محمد علي بلحولة الجهاد التونسي في الشعر الشعبي. ص 105