بقلم: شكري بن عيسى (*) واجه عشرين طلقة نار مباشرة ، ولم ينحن يمينا او يسارا او يسقط الى الامام، واستشهد عظيما شامخا مرفوع الرأي في ساحة الشرف والبطولة، بعد ان طالته يد الغدر الصهيونية الجبانة، التي اختارت التصفية بالرصاص المكثف وعن قرب بالنظر الى القيمة العالية للشخصية المستهدفة. مثّل رمزا في البطولة والمقاومة والالتزام بمبادىء وقيم القضية المركزية للامة العربية والاسلامية، واعاد البوصلة من جديد في تونس نحو القدس، وصار ملهما للشباب التونسي والعربي عامة التضحية والنضال من اجل تحرير فلسطين عبر ادوات التكنولوجيا والابتكار والابداع العلمي؛ انه الشهيد البطل المهندس الباحث المخترع الطيار والاستاذ الجامعي والقائد القسامي محمد الزواري. فمن هو بالتحديد محمد الزواري؟ كثير من الروايات اتصقت بشخصه، ولكننا نورد في هذه الورقة تفاصيل، تم تدقيقها من شقيقه رضوان وزوجته ماجدة خالد وصديقيه محمد الصامت وكريم عبد السلام، عن شخصية لأحد أبرز عظام تونس والمقاومة الفلسطينية. استشهد أمام منزله داخل سيارته بطريق منزل شاكر من مدينة صفاقسبتونس يوم الخميس 15 ديسمبر 2016 تقريبا على الساعة الواحدة و50 دقيقة زوالا، وحسب الرواية الرسمية لوزير الداخلية التونسي فقد تم الاغتيال المباشر عن طريق شخصين ضمن شبكة واسعة الاطراف، واستمر التحضير للعملية لستة أشهر، ولكن البصمات كانت للموساد الاسرائيلي، والثابت أن القرار السياسي الصهيوني تم اتخاذه منذ أكثر من سنة، لشخصية انتمت لقرابة 10 سنوات لكتائب عزالدين القسام، ألحقت أضرارا مباشرة عالية في صفوف العدو المحتل، ولازالت تشكل تهديدا مستمرا بالنظر لقدراتها ومنجزاتها في مجال الطيران دون طيار وايضا الغواصات المتحكم فيها عن بعد. مسيرة محمد الزواري كانت حافلة بالمنجزات والنجاحات الباهرة منذ الصغر. ولد محمد بصفاقس بتاريخ 28 جانفي 1967، زاول تعليمه الابتدائي ب"مدرسة شارع الجزائر" بصفاقس قبل ان يتحول في الثانوي الى "معهد الهادي شاكر" بالمدينة، ويتجلى نبوغه بحصوله سنة 1985 على الباكالوريا شعبة "رياضيات علوم" بملاحظة "حسن"، ثم ينتقل الى "المدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس" ليقضي 6 سنوات بين مرحلة تحضيرية (سنتين) ومرحلة منهدس أول (4 سنوات)، كان كان خلالها عموما المتفوق الاول على دفعته، لكنها لم تتوج بحصوله على الديبلوم لانه لم يتمكن من انهاء مشروع التخرج نتيجة المطاردات الامنية انذاك، حيث اضطر للاختفاء لمدة سنتين بين سنة 1991 وسنة 1993. نشط خلال تعليمه الجامعي صلب "الاتحاد العام التونسي للطلبة" وانتمى لحركة الاتجاه الاسلامي (النهضة حاليا) منذ أواسط الثمانينات في الثانوية، لكنه قطع صلته التنظيمية بها منذ هروبه سنة 1993 في اتجاه ليبيا حيث استقر لمدة 6 اشهر تقريبا اشتغل خلالها في تركيب الاطباق الهوائية، ليتنقل الى السودان ويستقر بها من سنة 1993 الى سنة 1997. انتقل في سنة 1997 الى سوريا وتزوّج في شهر جويلية من المرأة السورية: ماجدة خالد صالح، ثم رجع الى السودان وقضى قرابة 6 سنوات حيث قام بزيارة لمدة شهر زار فيها مع زوجته عائلتها في سوريا في سنة 2002، ثم عاد من جديد للسودان الى حدود سنة 2007، ثم عاد واستقر في سوريا الى حدود شهر أفريل 2011، حيث عاد الى تونس وبدأ في ترتيب استقراره بها واقامة زوجته السورية، اذ عادوا لسوريا وبعدها رجعوا لتونس في شهر جويلية 2011. تقدم بطلب للتسجيل لاتمام شهادته في الهندسة في "المدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس"، وتحصّل سنة 2013 (في 26 جوان) على الشهادة الوطنية لمهندس اختصاص "هندسة كهروميكانيكية"، بعد تقديمه مشروع ختم الدروس بعنوان: "Un avion sans pilote d'une autonomie d'une heure de vol nommé:ALKARAMA"، ثم سجل سنة 2013 لاعداد اطروحة دكتوراه حول غواصة تدار عن عبد تحت اشراف الدكتور محمد الصالح عبيد، وهو الى حدود استشهاده كان باحثا في "مخبر الانظمة الالكتروميكانيكية" ب "المدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس"، كما أسس "نادي الطيران النموذجي للجنوب" الذي ترأسه، وكان عضوا في "المجمع العالمي للطاقة والميكانيك". لم تلصق به شبهات دخول على خط المحاور والصراعات العربية والطائفية لا من بعيد ولا من قريب، وكانت بوصلته الدائمة والوحيدة هي المقاومة، ولم ينجح كل ما تم الصاقه به بانه تمتع بالعفو العام وانه تمت محاكمته في عهد الدكتاتورية، اذ كذّب شقيقه مباشرة تصريح وزير الداخلية في الصدد، واكد ان الشهيد الزواري لم يصدر بحقه اي حكم قضائي بالادانة وبالتالي فلا يوجد اصلا مطلب للعفو، كما فنّد ما روج من الوزير المذكور عن الشهيد محمد حيازته لجنسية بلجيكية. نفس هذه الحكومة التي رفضت منذ افريل 2014 (بعد انتهاء شهادة اقامة بسنتين) منح زوجة الشهيد تجديد الاقامة، واعلمه الامن بعد تردد الشهيد عليه بان الملف قد ضاع، وكانت بذلك عملية احتجاز مقنّعة له ولزوجته، اذ اي مغادرة للبلد ستكون بمثابتة المنع النهائي لزوجته من العودة لتونس، ورفضت لآخر لحظة منح الاقامة لزوجة الشهيد، واستجابت عنوة تحت الضغط الشعبي الكبير الى منحها اقامة لحدود نهاية سنة 2018، والحقيقة ان منح الجنسية التونسية للمعنية اصبح مطلب شعبي عارم ملح، استحقته بدماء زوجها التي خطت انصع صفحات البطولة الوطنية والعربية وليس منة من احد، ونتمنى ان لا يستمر تلكؤ الحكومة اكثر. تنقل الشهيد في حياته بين عديد الدول اهمها السودان وسوريا والسعودية ولبنان وتركيا ودخل غزة عدة مرات، وساهم بفاعلية في تصنيع طائرة الابابيل القسامية التي اخترقت معجزة القبة الحديدية الاسرائيلية، وارهبت الشعب الصهيوني المحتل، وكان في اعوامه الاخيرة بصدد تصميم غواصة موجهة عن بعد. نعته كتائب عزالدين القسام يوم السبت 17 ديسمبر 2016 في بيان رسمي، واشادت بخصاله العظيمة ومناقبه العديدة، وتوعدت بان "دماءه لن تذهب هدرا ولن تضيع سدى"، وأكدت انه احد قياداتها، كما وردت معطيات اخرى في موضع اخر عن انه كان يشغل خطة المسؤول عن الوحدة الجوية فيها، واعتبرته "شهيد فلسطين وشهيد تونس وشهيد الامة العربية والاسلامية وشهيد كتائب القسام"، وبينت انه "احد القادة الذين اشرفوا على مشروع طائرات الابابيل القسامية"، التي المت العدو و"اشاد به الاحرار في حرب العصف المأكول عام 2014". لم يكن انخراطه في المقاومة دون سياق، فقد كان نابغة منذ طفولته وشبابه وذا كفاءة عالية وتميز اخلاقي وادب عالي، شهد له به كل من عرفه، لذلك كان من الصفوة التي اتجهت اليهم اعين كتائب القسام، ونال في صفوفها اعلى الخطط، وابلى معها احسن بلاء وحقق صلبها امجد النتائج، أما في تونس فاستشهاده كشف شخصا من اعظم رجال البلاد عبر التاريخ، عمل في صمت عميق وهو المتحكم في اعلى التكنولوجيات في مجال الطيران. كان فخر الامة ومنح تونس نيشان الشرف، ووحّد باستشهاده كل الشعب باستثناء الطابور المتصهين، وخط نهجا متسقا مع الثورة ورسم ايديولوجيا فوق-حزبية تضع المقاومة باعتماد الابداع التكنولوجي والعلمي بوصلة المرحلة الراهنة. (*) قانوني وناشط حقوقي