مرّت مسرحية خمسون هذا الأسبوع مِن قرطاج... تعطيلها وعرضها سيّان... لقد كانت في كلتا الحالتين نادرة، متعالية، وسيمة، شهيّة، لعوب، غريبة، مبهرة، معذّبة في ذروة تشهيرها بالتعذيب. كَمْ كان الجعايبي عادلا في توزيع منغّصات اليقين وموتّرات الأعصاب على الجميع دون أن يرحم أحدا إسلاميين ويسار وسلطة. تونس التي رأيتها تلك الليلة مبثوثة حول ركح قرطاج كانت على درجة من الرفعة الأكبر جماليّة من أيّ رقم حول نموّ الاقتصاد أو مؤشّر جافّ للتنمية أو نصّ احتفاء خَشبيّ بمكاسب الوطن، مناخ تلك الليلة بالذّات هُوَ ما يغرس في النفس الشعور بتلك الجملة الكادحة، «الالتحاق بمصاف الدول المتقدّمة»... مناخ تلك الليلة حلّق بنا بعيدا وكأنّه مَرَّ في غفلة عَن الحرس الثقافي الحريص على حماية الانحطاط وصيانة مدينة القاع المتفرّغة لإنجاز البرنامج التنموي الطموح: «لا تفكير بعد اليوم». لا ديمقراطيّة في الجمال والمعرفة والثقافة، خمسون استثناء مرعب في الرسالة والخطاب وشخصيّة المتلقّي المكتوب عليه في حضرة الفاضل وجليلة أن يتوضّأ مِن أدران السهل والمنبسط وما يطلبه الجمهور ويسلّم لهذا الجعايبي حقّه الكامل في أن يتعالى ويغترّ وينظر لِمَنْ يرجعون مِثله بالنّظر إلى الوزارة المكلّفة بالثقافة مِن الطابق الكائن في السماء السابعة. هل تركت خمسون شيئا لم تقله حول قلب رهاناتنا السياسيّة والاجتماعيّة الرّاهنة، المشكلة أنّها تحدّثت بصوتٍ عالٍ دون أن تفسد الصرخة ملمح الفنّ والجمال، فقط كانت ملامح جليلة بكار أو فاطمة سعيدان أو جمال مداني أو بقيّة المبدعين الذين يتضاعف إبداعهم بركون أسمائهم إلى السريّة، فقط كان تغيير في حركة الفم أو اليدين أو التواء في الجسد أو حدقة العينين، فقط كان ذلك كفيلا بجعل خطاب سياسيّ مباشر حفلت به المسرحيّة مُضَمَّخا بحلاوة رسم فَنّي أو عزفٍ لذيذ. قوّة المسرحيّة أنّها وزّعت قساوتها بعدل على الجميع هُنَا في أرضها، في تونس، لم تهرب إلى اللاّمكان واللاّزمان حيث السلامة والأمن والإطمئنان، لقد ألقى الجماعة بكل الأسئلة على قارعة الطريق: - هل نشرّك الإسلاميين أم لا؟ - هل نقبل بالحجاب أم لا؟ - كيف يمكن لديموقراطي يقبل بالاختلاف أن يتعامل مع حجاب الإسلاميين حين يمتدّ اجتماعيّا باسم الحريّة الشخصيّة؟ - هل مازال لليسار دور؟ - تحالف 18 أكتوبر زيجة طبيعيّة من أجل الحريّة أم التقاء انتهازي؟ - قانون مكافحة الارهاب بين شرعيّة مقاومة الظّاهرة والسقوط في تبرير التعذيب وانتهاك الحريات؟! - هل يسير تاريخنا نحو قدر إسلامي محتوم؟ - كيف تحمي الحريّة نفسها من مشروع الإسلاميين؟ - هل تملك نخب أخرى خارج منظومات الاصطفاف التقليدي وراء اليسار أو السلطة أو الإسلاميين إمكانيّة الفعل في المستقبل؟ جلس الجميع على كرسي التداعي الإكلينيكي الذي هيّأه الجعايبي: - المناضل اليساري والمجاهد الإسلامي والموظّف الأمني، كانت أسئلة خمسون أقوى من أن يحتملها اطمئنان الفرح الدّائم وأكبر من بيانات وأنشطة بعض أحزاب منحت تأشيرة تونسيّة لتكتفي بإبداء انشغالها ممّا يحصل في السودان واستنكارها لما يحصل في لبنان وحيرتها أمام ما يحصل في فلسطين ودعوتها للإخوة في النيجر والسند وكينيا وأوسيتيا للتعقّل وتغليب صوت الحكمة!!! الفاضل الجعايبي وجليلة بكّار أهمّ حزب سياسي تستطيع تجربتنا الديمقراطيّة أن تفاخر به، أمّا بعض الذين قد يساورهم شيء من القلق والشكّ تجاه قيمة هذا الحزب فألفت انتباههم أنّه عوض إخفاء خمسون وعدم إشهارها ولو بذرّة مِن الإمكانيات الإشهاريّة التي توضع على ذمّة حفلات الرقص والحزام فإنّ مصلحة الوطن تقتضي أن يتمّ الحرص على دعوة كل مَن يهتمّ بقضايا التعبير والحريات في تونس لمواكبة هذه المسرحيّة ليقف على درجة حريّة التعبير المتوفّرة في البلد... مَن قال أنّ حريّة التعبير تواجه تضييقا في تونس؟! صدّقوني خمسون هي أهمّ إجابة في هذه المرحلة فلا تضيعوها في زحمة الشكّ الدّائم!!!