بقلم: شكري بن عيسى (*) الثورة التونسية لئن قامت ضد دكتاتورية النظام فانها كانت بالأساس ضد تفشي الفساد، بعدما ظهرت حاشية مترامية تحتكر كل الامتيازات والثروة بطريقة مافيوزية، وكانت ابرز شعارات انتفاضة 2010-2011 "لا لا للطرابلسية اللي نهبو الميزانية" وخاصة "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"، في ربط دقيق جدا بأن وجود بطالين انما هو ناتج عن سرقة الثروة الوطنية من قبل الفاسدين ما حرم عامة الشعب من مشاريع توفر لهم الشغل، ولكن طيلة ست سنوات ما بعد الثورة لم يتم الاستجابة لهذه الاستحقاقات وتحوّل الفساد الى اكثر حصانة بعناوين الديمقراطية. والسبسي دون حرج في خطابه الاخير اذ لم يرفع تقريبا شعار مكافحة الفساد، فقد أصرّ (الحاحا) على مشروعه المسمى "قانون المصالحة"، بما يعنيه من تستر على الفاسدين وطمس جرائمهم، وحماية لما نهبوه من مال الشعب وافلات لهم من المحاسبة، وشرعنة لما مارسوه من فساد بعفو تشريعي، تحت دواعي "المصالحة" و"طي صفحة الماضي" دون مراعاة مستوجب ضمان عدم عودة الجرائم والانتهاكات، ودون الحرص ايضا على تفكيك منظومة الفساد وكشفها واصلاح المؤسسات، والالية التي جاء بها السبسي ويروج لها اذرعته السياسية والاعلامية هي خيار "الديمقراطية" في تمرير القانون. و"الديمقراطية" اليوم اصبحت تحت كماشة السبسي والغنوشي، الذين يمررون تقريبا كل ما يتفقون عليه في "الغرف المغلقة"، وتأتي مؤسسات احزابهم لتصادق عليه وتضفي عليه "المشروعية" المؤسساتية، وصارت بالمحصّلة تُمارس دكتاتورية مقيتة باسم "الاغلبية" وباسم "التصويت"، وكلمة "الانضباط" الحزبي في التصويت تعلو فوق كل شيء، ما جعل هذه الديكتاتورية اكثر صلفا وتدميرا من الديكتاتورية السابقة، خاصة وانها اصبحت تحت قبضة الفساد كما أكد تقرير "مجموعة الازمات الدولية" الصادر في 10 ماي المنقضي . وهذه "الديمقراطية" المستبدة باغلبيتها العددية وداست مبادىء وقيم الدستور، في الحوكمة الرشيدة والشفافية ومكافحة الفساد والتهرب والغش الجبائي وحياد الادارة وخدمة الصالح العام وتحقيق العدالة الانتقالية والعدالة الاجتماعية، انحرفت بجوهر العملية الديمقراطية وجعلتها مجرد ديمقراطية اجرائية شكلانية صورية بلا روح، ما حرّك الضمير الشعبي والضمير المدني ورفع صوت المنظمات المدنية والحركات الشعبية يصدح عاليا من اجل ارجاع "النظام" وضبط الاعتساف وتجاوز السلطة، سواء من خلال استعمال حق التظاهر السلمي في الميدان او استعمال الاحتجاج في شبكات التواصل الاجتماعي "فايسبوك" باستعمال الحق في التعبير. والبعض يريد ان يخنق الديمقراطية باختزالها في المواعيد الانتخابية، كما يسميها الفيلسوف علي حرب: "ديمقراطية المناسبات"، ويتجاهل ان ابرز مفاعيلها هي حرية التعبير والتظاهر وسلطة المجتمع المدني اضافة لاستقلال القضاء وبقية هياكل الرقابة والحد من السلطة، ويستنكر كما فعل السبسي و"جليسه" الغنوشي التحركات الميدانية خاصة ويسعى الى شيطنتها وترذيلها، في الوقت الذي اثبتت فيه المنظومة المنبثقة على انتخابات 2014 قصورها العميق، ووصولها بتونس الى حالة انسداد حاد. ما جعل الفساد ينخر اليوم كل القطاعات ويصل الى ارقام مفزعة (طبعا دون تعميم)، وانتقل من احتكاره في يد مافيات المال والسلطة والاعلام في عهد ن علي من اصهاره وشبكته الى رجال اعمال وسياسيين اصبحوا اليوم يتحكمون في اغلب الشأن السياسي والاحزاب، والفساد الذي كان سابقا بادوات القمع المادي والرمزي بمختلف الياتها التشريعية والقضائية والبوليسية والادارية والاعلامية والثقافية والمالية صار اليوم مصبوغا بمشروعية "ديمقراطية"، باعتبار حمايته بادوات البرلمان والاحزاب الحاكمة والحكومة والرئاسة واعلام المال والفساد، تحت "مباركة" الشيخين بمنطق الصفقات والمساومات وحتى الابتزاز، وحتى مؤسسات الرقابة وعلى راسها هيئة شوقي الطبيب فقد صارت مجرد مؤسسة ديكورية وتحوّلت الى جزء من اللعبة عبر التواطؤ برغم الفرقعات الصوتية الفارغة المتعددة. التقرير "الازمات الدولية" المفزع تقرير "مجموعة الأزمات الدولية " خلص في خاتمة تحاليله الى استنتاجات خطيرة جدا، وحذّر من أنّ "الحنين للدكتاتورية يتعمّق" بعد دوام افتقاد الثقة في الطبقة السياسية وتوسع السخرية منها، واحتداد النزاعات، في ظل "توافقات" تجنّب "الانزلاقات العنيفة" ولكنها تظل "هشة" و"لا تشتغل الا على المدى القصير"، منتقدا "التسويات الخفية" منذرا من "مخاطر عدم الاستقرار" اذا لم يتحقق بصفة "استعجالية" "حوار" مقترن ب"اصلاحات" لنزع اسس الصراع، والتحاليل كانت بالفعل صادمة في تفاصيلها ورسائلها. "مجموعة الازمات الدولية " هي منظمة غير حكومية ذات صيت واعتبار دولي، تعتمد المقاربات العلمية والخبرات والمقاربة الميدانية في تحليل وتوقع المخاطر والازمات وفض النزاعات وحتى الحروب، وتقريرها الصادر الاسبوع المنقضي تحت عنوان: "الانتقال المعطّل: فساد وجهوية في تونس " استعمل اشد العبرات واكثرها راديكالية لتشخيص الواقع الخطير، من "اقصاء اجتماعي جهوي" الى "الانقسام الجهوي" الى "الافاريات" الى "الزابونية" و"بارونات الاقتصاد الموازي" و"التهريب" و"دمقرطة الفساد" و"تجذير اللامساواة" و"تأبيد التمييز" و"النفوذ الخفي" و"صفقات النفوذ" و"رجال الظل" وخاصة "التقاسم الزابوني لموارد الدولة" و"الدولة المنحرفة".. وهذا للاشارة الى نتائج "التوافق" الكارثية بين السبسي والغنوشي الذي خلق مفاوضات سرية بعيدة عن الانظار، خلقت تسويات نقلت قنوات الحوار السياسي الى "الموازي"، تسرّبت عبرها الشخصيات النافذة للاحزاب وعائلاتهم واقاربهم وابناء جهاتهم واصدقائهم لمجالات التحكم والنفوذ، واستثمرتها "رجال الظل" في مجال الاعمال للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، وتمركزوا في السلطة التشريعية عبر تمويل الحملات الانتخابية للاحزاب او عبر الترشح المباشر، وصاروا هم من يعين الوزراء والولاة والاطارات الادارية والامنية والديوانية العليا، الذين يصبحون في خدمتهم المباشرة. وحتى من لم يقدر على تمويل حملات نواب ناجحين او لم ينجح عند الترشح بامكانه شراء النواب او شراء مواقفهم الى حد اصبحنا نتحدث عن سوق لشراء التصويت، واصبح رجال المال والاعمال النافذين يتمتعون بحصانة لتثبيت وتجذير نفوذهم، وصاروا في حماية ازاء التتبعات العدلية ومن كل محاسبة، والبعض ممن نهبوا القروض بمئات المليارات من البنوك افلتوا من كل تتبع، والحماية صارت تشمل التهريب رالتهرب والغش الجبائي وحتى تجارة المخدرات وتبييض الامرال، وصارت الدولة عبر الادارة والحكومة والمجلس النيابي في جزء هام منها تشتغل بطريقة الزابونية التي تجذرت في اغلب المؤسسات العمومية ما سد الباب امام ظهور نخب اقتصادية جديدة خاصة من الجهات الداخلية. اليوم الفساد صار محمي باليات الديمقراطية، وصار "ديمقراطيا" مثلما تحدانا بسيس بتمرير مشروعهم لحماية الفاسدين "بالديمقراطية"، وصارت الديمقراطية بيد رجال المال والفساد يتحكمون في الياتها واشتغالها، ومؤسسات الدولة صارت تشتغل لفائدتهم بعد ان اسست في ميكانيزماتها علاقات زابونية تحمي النافذين وتحصنهم وترسخ سلطتهم وتدافع عن امتيازاتهم، وتقصي منافسيهم وتجذر الوضع المختل القائم اقتصاديا واجتماعيا وتنمويا وجهويا وسياسيا، وهو الوضع المشابه بالضبط لفترة اندلاع الثورة اواخر 2010 واوائل 2011. تحاليل ليست من عندنا هذه المرة، تتطابق مع كل ما حبرناه وحذرنا منه في هذه الصفحة، واليوم تأتي الصيحة الصارخة من ابرز المنظمات الاكاديمية المرموقة في العالم المختصة في الازمات والمخاطر وحتى الحروب. كل الاضواء اشتعلت بالاحمر كما اشرنا في تعليق سابق على خطاب رئيس الجمهورية الاخير، الذي كان في عزلة تامة عن مثل هذه التقارير، ولا ندري الحقيقة ان كان سيستمر الهروب الى الامام، وادعاء النجاح واستمرار التمسك بمشروع قانون "المصالحة" المكرس للفساد وانتهاج القاربات الامنية لمعالجة الاحتجاجات الاجتماعية، واتباع نفس مقاربة الحكم المتداعية والتمسك بمنظومة اكتوبر 2014 التي اوصلتنا الى هذه الحال!! (*) قانوني وناشط حقوقي