نصرالدين السويلمي عملت قيادة النهضة منذ مطلع 2014 على تجريع التوافق لأنصارها، واجتهدت في ذلك مستعينة باستحضار التجارب العربية الاخرى التي فشلت، مؤكدة ان تلك التجارب جانبت التوافق فجانبها النجاح، ومع الوقت تمكنت القيادة النهضاوية من اقناع قواعدها بحتمية التوافق لضمان سير مشروع الانتقال الديمقراطي، مستعينة بصورة اقليمية تكاد تجمع اركانها على استهداف التجربة الأم ، وعصابات اقليمية شرعت في ذلك وشمرت، لولا فائض الوعي التونسي الذي ركل سقط المتاع الداخلي وحال دونهم وتسليم رقبة تونس للذين لم ينسوا ولن ينسوا لها "جريمة" سبعطاش ديسمبر. وكان ان نجحت الحركة في إقناع أنصارها باستحسان او تفهم التوافق، رغم ذلك ظلت الريبة تخيم على العلاقة بين قواعد النهضة وشريك قيادتها، وان كانت المؤسسات دخلت في شراكة فعلية مع النداء فان قواعد النهضة لم تتجاوز سقف الهدنة الهشة، حيث نجح التوافق الفوقي وفشل العمودي، لان انصار النهضة كانوا على يقين ان شريكهم الافتراضي مازال يحافظ على الصوت في يده، ربما لمواعيد انقلابية ياملها، وربما فشل التوافق القاعدي نتيجة لالتقاء الجلاد جدا والضحية جدا، دون وساطة، من جلاد مخفف او مناضل منقوص، وربما كانت الريبة وكان بسيس وكانت النية السيئة المبنية على التحين لاقتناص فرص الغدر. إذا ولما كانت قواعد النهضة والنشطاء الذين مكنوها من اكتساح مواقع التواصل الاجتماعي، قد انخرطوا او تفهموا او هادنوا سياسية التوافق، لماذا اغرقوا التيار الديمقراطي والجبهة الشعبية بالنقد اللاذع، هل يعود ذلك لانهما دشنا عمليات توافق اقتضتها نتائج الانتخابات البلدية، وحتّمها التعايش الوجوبي بين جميع المكونات التي سيعهد اليها بتشكيل المكاتب، حتى يتسنى تقديم الخدمات التي انتظرها المجتمع لأكثر من 7 سنوات. لماذا ينتقد انصار النهضة ما بشّرت به قياداتهم منذ سنوات، لماذا لا يقتنعون ان ما اقدم عليه الغنوشي سنة 2014، لم يكن بطولة او فراسة نادرة، بقدر ما كانت واقعية فرضتها نتائج الانتخابات وعوامل اخرى مكلمة، الا يدرك هؤلاء ان الاحزاب التي رفضت التوافق بالأمس لم تكن معنية به اصلا لانهيار اسهمها في الصناديق ما يحول بينها والتطلع الى الشراكة بجدية، وإنه لمن الصعب على الاحزاب ان تتجرد الى درجة انخراطها في التوافق دون جني ارباحه، حينها بالتأكيد ستكون الطوباوية و الرفض والتنزه عن سفاسف السلطة هي العناوين الكبرى التي تحتكم اليها الاحزاب المتمنعة، أما وقد اصبحت اليوم معنية بالحكم المحلي وحققت في ذلك نتائج تمكنها من إدارة الشأن البلدي مع الفرقاء، وتحتم عليها عقد صفقات وبناء تحالفات لتحسين شروط التموقع المحلي، فإنها وبوعي او دون وعي ستشرع في التخلي عن ثوب الممانعة، وتباشر الواقعية التي تفرضها فلسفة إدارة الشأن العام. *لماذا رفضوا التوافق سنة 2014 وقبلوا به اليوم؟ تتساءل قواعد النهضة! هذا ليس بالسؤال الاعجازي، إذْ لم يكن من صالح الاحزاب التي لم تحملها نتائجها الى مستوى الشراكة في الحكم، ان تتحمل اكراهات التوافق، وحتى تنزل عند التعايش واكثر منه التعاون، كان لزاما ان تتحصل هذه الاحزاب على انتصارات مبتورة تغريها بالسلطة ولا تحملها اليها منفردة، هناك سيبدأ التفكير في التوافقات وعند عتبة الانتصار المنقوص ينتحر التصلب وينتهي التفكير المجنح المتخفف من التكاليف، وتشرع الدولة في بسط سلوكها على الجميع، هكذا انساقت النهضة الى اكراهات الحكم ونزلت عند شروط الدولة، وهكذا سيفعل الجميع ماداموا غير قادرين على حسم الامر بالصناديق والتحليق بعيدا عن 50 زايد واحد، تلك النسب السحرية التي قد تخلص المكتسح من الشراكة المرة، ولكن الى حين، فالحكم في ظل الديمقراطية يرتكز على شرط التداول على السلطة مثلما يرتكز على شرط التنازلات كقيمة ملزمة لبناء تحالفات قد تفرضها الصناديق مرة ومرات وتحتاجها هذه المرحلة او تلك. كما كان متوقعا، شرعت الاحزاب التي حققت بعض التقدم في المحليات،في التمرد على الرخاء الثوري وبذات في انكار تحريم التوافق بالجملة، وذهبت الى ان التحريم ليس هو اجماع الجمهور بل فيه روايات عليلة المتن والسند، وان المدار هو المنطق ومصالح الناس، وبدا وكان التوافق غادر مربع الخيانة ثم تقدم اكثر فغادر مربع الانتهازية ثم توغل فاصبح غير منبوذ ، وهو اليوم على مشارف ان يصل الى حدود المندوب وهناك بوادر تطور قد تصل به الى مستوى الاركان الثابتة، ونحن بين يدي بروسترويكا المحليات،علينا ان نتذكر جيدا انه وقبل ذلك بأشهر معدودات، كانت عبارة التوافق في عرف البعض خادشة للحياء الثوري، مخلة بآداب الديمقراطية، لا ينطقها الا السوقة ولا يأتيها الا سقط الاحزاب، أما وقد حتمتها السلطة واقتضاها الحكم ولو كان محليا، فلا باس من تعاطيها، ولكن دون اسرافا وبما تقتضيه مصلحة الحكم المحلي، في انتظار ما ستفصح عنه نتائج استحقاقات تسعطاش، حيث ومن المرجح ان نشاهد توافقات تشيب لها الولدان، ويان من ثقلها التوافق نفسه. قريبا عندما تنتهي الهيكلة و تشرع المكاتب البلدية في العمل ،سيتاكد الجميع ان التوافق والتعايش والتآزر، كلها مضامين كفيلة بإنجاح المهمة، وان أي عملية تنطع ثوري او زلمي هي جريمة قد تعصف بمصالح الناس وتدفعهم الى كره الثورة والثوار ونبذ الديمقراطية، وتغذي فيهم الحنين الى زمن الاستبداد، حين كان التوافق ياتي بقرارات فوقية،يصدرها الجلاد ويرتشفها العبيد عن طيب خاطر، حين كان ناس الخبز فقط، يعتقدون ان الصراخ المنبعث من بعض البنايات المشبوهة، إنما هي مسالخ نوق وحضائر دواجن، لم يكن احد منهم يعي ان الامر يتعلق بأحرار يدفعون ضريبة رغبتهم في الارتقاء بالحاجة الى الحرية الى مستوى الحاجة الى الخبز. *إذا لماذا يمارسون التوافق فعلا وينكرونه قولا؟ يتساءل أنصار النهضة ! ان للمجاهرة شروطها تماما كما للتكتم شروطه، وان كانت النهضة جاهرت بالتوافق فذلك يندرج في إطار الخصوصيات وضمن باقة من المعطيات، ولا يمكن بحال إجبار الأحزاب والكيانات الأخرى على انتهاج أسلوب النهضة، فالاحتياط النهضاوي لا يقارن بغيره، ذلك ان زعيم النهضة كان يدرك ان انتهاج التوافق"ضحية-جلاد" والمجاهرة به سوف يخلخل حاضنة النهضة ويحدث الشروخ الكبيرة في قواعدها ويخلف حالة ارتباك ستبذل المؤسسات الجهد الكبير والطويل في علاج تداعياتها،لكنه كان على يقين ان النواة الصلبة مثلما تماسكت حين عصفت المحن ، قادرة على التماسك حين يعصف الاختلاف، ولعل قوة هذه النواة انها لا تتعامل مع المواقف المغايرة او المرفوضة او حتى الهجينة، بعقلية التخوين والتسفيه، وانما بعقلية النية السليمة والاجتهاد المفتوح..ومادامت العلة ليست في النية وانما في الاجتهاد، تسهل عملية الاصلاح ويهون راب الصدع. واذا كانت النهضة قادرة على التعويض من خلال الرهان على عمق الولاء او عبر استدعاء الاحتياط المتحمس في انتظار سكوت الغضب وانقشاع السحب وعودة الاطقم الى سالف نشاطها، فان الأحزاب الأخرى لا يمكنها المجازفة بمنعرجات قد تخرجها تماما من دائرة التكليف السياسي، خاصة الاحزاب التي رفضت الانغماس المباشر في المجتمع وجنحت الى استمالت الغاضب والعازف والمحبط والمتردد، وخيرت الخنوس في زاوية من خواصر النهضة ومن ثم شرعت في ممارسة "المز" الثوري لبعض قواعدها، لقد ضيق هؤلاء واسعا، وحرموا الثورة من خير كثير، حين ذهبوا وفق رايهم الى تحسين سلالة الثوار، وتركوا الازلام يرتعون في كتل العزوف الهادرة، لكن لاباس، هذه نتائج الانتخابات البلدية تعدل البوصلة، وتعلن انطلاقة جديدة بعيدة عن مزايدات الثوري والثوري جدا والثوري البرغماتي والثوري المدافع والثوري المهاجم والثوري الاساسي والثوري الاحتياطي..ها نحن نطوي صفحة الصراع على ملكية حقوق الثورة، ونباشر التنافس حول البرامج، والمناهج وقدرة الاحزاب على الانتشار السليم، ثم والاجدر قدرتها على احترام قواعدها دون ان تصبح رهينة لها، تحرم البلاد من الخير الكثير وتعطل سير الانتقال الديمقراطي وتهدد المسار الثوري، فقط لإرضاء قواعدها، نحتاج اليوم لأحزاب تستجيب الى استراتيجية انصارها وتتفاعل مع روح توجهاتهم العامة، ولا تهجع تحت شهواتهم وتعقل الدولة عند أمزجتهم المتنقلة. *ألا يمكن للتوافق ان تكون لديه ضوابط اخلاقية؟ يتساءل انصار النهضة! دعونا نتفق اولا ان اركان التوافق في تونس ليست محددة ولا معلومة ولا مشروطة بعائلات فكرية او سياسية، ثبت ذلك من خلال مشاورات ما قبل الترويكا، حين تمت دعوة الجميع الى طاولة التوافق"تقدمي، عمال، قطب،افاق.."، واليوم نرى توافقات محلية بين النهضة والحراك من جهة وبين التيار والجبهة والنداء من جهة اخرى، لا يضير هذا وذاك مادامت كلها احزاب مرخصة تعمل تحت طائلة القانون، اما الحديث عن الضوابط فلا يجب ان نقف كثيرا عند قبول التيار برئاسة بلدية في حين لا يملك غير 3 اعضاء بينما يُنحى صاحب 8 أعضاء بحكم الحسابات والتوافقات، صحيح انه كان يمكن خوض التنافس على الرئاسة في بلديات نتائجها متقاربة، لكن منافسة "3" ل"8" والقبول بالمنصب قد يكون فيه بعض الشطط الاخلاقي ، رغم ذلك يمكن التجاوز عن مفسدة صغيرة مقابل مكاسب كبيرة تتحقق تباعا في مناخات تأثيث المكاتب وما تتطلبه من مشاورات وتحالفات، من شانها إنضاج التجربة والخروج بها من ربقة التمعش الصوتي الى رحاب التكسب السياسي المشروط بالعمل والوعي والمسيج الوطنية. *التوافق المحمود والتوافق المذموم؟ ان تتوافق مع المنظومة القديمة العائدة بقوة الصندوق، تكون قد حققت مكسب البقاء في الدولة، تسمع وترى وتحتاط وتحذر.. ذلك قد يكون اهون من التحالف مع عرابها، الذي امتطته حين كانت في طريقها الى مواضعها القديمة، ثم لا يجب ان تعمينا لذة ومجانية معارضة الأحزاب الحاكمة، على الركون الى قوى ترفض العملية الديمقراطية من اصلها، وتبشر بالجنرالات والنياشين، وتبرر البراميل، وتقترح ديمقراطية منزوعة من القوى الاساسية، تتسيّد فيها، والا فإنها الاضرابات والتصعيد وتحطيم الاقتصاد والارض المحورقة حتى تنهار الدولة ويظهر المسيح الجنرال او يطل المهدي المشير من سردابه، او يزحف الفريق خليفة على راس الجدير.. ان الركون الى احزاب ترفض الديمقراطية وهي ما تزال في المعارضة،حديثة عهد بالديمقراطية، هي جريمة موصوفة تمهد الطريق أمام السرطان ليستشري، لذلك وجب الحذر من التنسيق العالي مع الضباع الإيديولوجية المعادية للحرية الناعقة بالانقلابات، وادراج ذلك التنسيق ضمن السلوك الثوري! كما يجب التنبيه الى ان الاعتماد في بناء الكتل على التلقيط العشوائي للغاضب عن و المتساقط من..،لا يبني اجسام حزبية وانما يبني اوهام حزبية، ستتبخر عند اول ازمة، نتيجة لمنحة او محنة وما النداء عنا ببعيد، وليس من حل سوى اعادة انتاج خيارات سياسية جدّية وجديدة، تقطع مع نهش الاحزاب التي تؤمن بالثورة والعمل على تلقيط المتناثر من قواعدها، وتعتمد على استهداف اوعية الثورة المضادة واستمالة الذين لا يؤمنون بالثورة وتحفيز الذين يغطون في الخمول. اروع ما في الانتخابات البلدية بما فيها من نتائج واكراهات وحوارات وتحالفات، انها اكدت فلسفة حماية الثورة من داخل مؤسسات الدولة، لقد كان الغنوشي يغرد وحيدا حين قالها وفعلها، ثم غردت معه بعض مؤسسات الحركة، ثم التحقت بقية المؤسسات فالقواعد فقسم من الشارع ولفيف من الاحزاب، واليوم يلتحق بقية المكون، ويشرع في التحرك باتجاه الدولة، لحماية الثورة، وفي الاثناء تدور حوارات جانبية، بين احزاب ثورية جدا واخرى ايديولوجية جدا وثالثة زلمية جدا، يبحثون عن مسودة توافقات سيحتاجونها إثر اعلان نتائج تسعطاش بعد الفين.