نصرالدين السويلمي لم يخسر أردوغان كواجهة او بن علي يلدريم كمتراهن او العدالة والتنمية كحزب، لم يخسر أي من هؤلاء بلدية اسطنبول نتيجة لمفاضلة شعبية بين العدالة والتنمية وحزب الشعب أو بين أردوغان وكيليتشدار اوبين يلدريم و إمام أوغلو ، لان المفاضلة تكون وفق الحصاد والاكيد ان لا حصاد يذكر لحزب الشعب ومرشحه وزعيمه أمام العدالة التنمية وزعيمها ومرشحها، بل حتى الالمان انفسهم اكثر المناوئين لأردوغان أكدوا في أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من مسؤول ان ما حققته تركيا مع أردوغان على المستوى الاقتصادي لم يتحقق طوال تاريخ تركيا الحديث، وإنما مآخذهم على نمطه الثقافي المتنافر مع السياق الأوروبي. علينا ان ندرك ان شعبية الأحزاب والشخصيات السياسية في أصلها شعبيات، لأن المزاج الجماهيري لا تستميله رغبة او وجهة واحدة موحدة، والحزام الانتخابي ليس بتلك الكتلة المتجانسة الى حد الاستنساخ، تهفو بمجملها لهذا الحزب وذاك حال تحقيقه لإنجاز هنا او هناك، بل هي متعددة المشارب والرغبات والطموح، لذلك كان تراجع العدالة التنمية على جرعات، تراجعت بعض شعبيته حين استقبل اللاجئين السوريين بتلك الكثافة، ثم تراجع حين رفع التضييق عن الحريات الدينية، تراجع ايضا حين توسع في اعتماد العربية، في الكثير من المدارس وأعاد لها الاعتبار، وسمح باستعمالها في واجهات المحلات والسائر الفضاءات، ثم تراجع حين انتصر لحقوق الإنسان وايد ثورات الربيع العربي واعتمد مقاربة عسكرية وطنية من خارج الوصاية الامريكية.. كانت تلك رحلة النزيف التي استطاع العدالة والتنمية لجمها والحد من تداعياتها، صحيح ان كل تلك الخطوات تجلب الخسارة كما تجلب الربح، لكن النزيف كان اقوى، لان الحاضنة المحافظة وفية بطبعها وجاهزة للتفهم كما للصبر، أما الحاضنة المنتفعة وهي الأوسع، فتنصرف كلما تراجعت مرابيحها او صادم المنجز قناعاتها. لأسباب موضوعية خسر العدالة التنمية رهان صفر مشاكل مع دول الجوار، بعد ان حاصره التماس الساخن، من حدود العراقية إلى الحدود السورية كما شاغبته المسألة القبرصية، تعكر الوضع أكثر مع دخول الإمارات والسعودية على الخط وتخييره بين الحرب الاقتصادية أو الاعتراف بالانقلاب في مصر وتسليم او طرد كل من لديه علاقة بالشرعية. هذا الى جانب ان تركيا الحديثة غير تركيا ما قبل 2002 التي تترقب مساعدات الاتحاد الأوروبي المشروطة لتتجنب الإفلاس، أصبحت تركيا مصنعة منتجة ولابد لها من تحريك خبراتها و قواها الدبلوماسية والتجارية باتجاه الأسواق العالمية وما يعني ذلك من منافسة قد تؤدي الى معارك طاحنة بأشكال مختلفة. بعد سنوات الاحتفاء الاولى وحين صنع الاقتصاد التركي مخالبه وبدأت النزعة السيادية تطغى على خطاب أردوغان وفريقه، بعد تلك السنوات التي ركن فيها الشعب الى الانطلاقة الواعدة، بدأ العدالة التنمية يدفع ثمن تركيا القوية، كان المزاج العام يريد تركيا مصنعة دون أن تحاربها مراكز التصنيع العالمية، يريدها مصدرة ولا يمسها الاحتكار الدولي بسوء، يريدها دولة سيادية دون أن تدخل في مشادة مع السادة الكبار الذين لا يهبون السيادة الى الشعوب المقهورة بل تُنتزع منهم بتفعيل كاسحة الارادة الوطنية، يريدها دولة ذات خصوصية ثقافية دون ان تجلب السخط الأوروبي المسيحي المتعالي بثقافته المتحفزة التي تخشى على نقائها من ملامسة الثقافات المختلفة. كلما تمددت تركيا كلما انكمشت شعبية العدالة والتنمية نتيجة للتداعيات التي خلفها التمدد، سدد الحزب الحاكم كل ديون تركيا، أخرجها من الانكماش الاقتصادي، دفع عجلة التنمية، ضاعف الدخل الفردي لمرات، انتقل بها من دولة عالة على أوروبا إلى دولة تنتمي لمجموعة العشرين، قام بثورة صناعية وتجارية وعسكرية وثقافية، وتمكن بعد ما يناهز 10 سنوات من تسديد ديون تركيا لصندوق النقد الدولي، والتي وصلت سنة 2002 الى 23.5 مليار دولار..ثم خسر اسطنبول! من البديهيات ان ذاكرة الشعوب قصيرة، لأنها لا تمنح الفرص ، صماء لا تسمع الحجج ولا تابه بالأسباب، واقعية تتفاعل مع الارقام، تهتم بإنجاز الحزب ولا تهمها مشاغله وصعوباته، وتلك خاصية إيجابية وليست مذمة، لان التطور الاقتصادي لا تصنعه عواطف الشعوب وانما حسن اختيارها ثم ضغطها المتواصل ونهمها وعدم قناعتها واعتقادها الدائم انه بالإمكان أفضل مما كان، وحتى نقترب من الصورة بشكل رقمي، يكفي القول ان العدالة والتنمية تسلم البلاد باحتياطي إجمالي وقدره 26.5 مليار دولار، ليتجاوز خلال شهر مارس 2019 حاجز 100 مليار دولار، وهذه قفزة رائعة، تسلم حزب العادلة والتنمية عمولته عليها حين جدد له الشعب التركي طوال سنوات، لكن المشكلة ان احتياطي النقد خسر خلال شهر ماي الفارط 1.8 مليار دولار!!! ولان الشعوب تدفع بالحاضر ولا تحسن سياسة الإقراض، حاسبت أردوغان وحزبه على خسارة 1.8 مليار! كما حاسبته على تراجع الليرة، ولم تكلف نفسها مقارنة اقتصاد اليوم باقتصاد 2002، تلك أشياء ليست من مهام الشعوب الباحثة عن المزيد، لذلك فإن الشعب التركي لا يقارن ليرة 2002 بليرة جوان 2019، الشعب يقارن ليرة اليوم بليرة الامس، فقط لا غير. من أجل ذلك كان على رأس الديمقراطية، خيار التداول السلمي على السلطة، الذي سيجبر الخاسر على المغادرة، كما سيجبر الرابح الذي تراجعت نسبة ربحه على المغادرة، الكل يغادر.. وحده الرابح الذي طور نسبة ربحه سيبقى.. ولكن إلى حين.