وات - تحرير نعيمة عويشاوي - لم تستطع العميدة جميلة صميدة اخفاء مشاعرها امام دموع سجينة همست في اذنها فور دخولها مطبخ السجن طلبا للمساعدة، ربتت على كتفها، وطبطبت معاناتها بكلمات تسللت الى نفسيتها المتعبة وأمطرت كسحابة امل روت مساحة التعطش للحرية بداخلها، فنجحت فى تهدئتها ورسم ابتسامة على محياها. واصلت العميدة، التي عينت على راس سجن النساء بمنوبة منذ سنة 2002، كاصغر مديرة سجن عن عمر ال25 عاما، جولتها داخل المطبخ، مطلعة على جهود السجينات في اعداد وجبة الغداء، ومستفسرة حول أوضاعهن، بمزيج بين مشاعر المراة الحنون والصرامة والجدية، وقدرة على تطويع القانون كاداة للاصلاح وليس للعقاب حاولت المسؤولة عن اكبر الوحدات السجنية المخصصة للنساء على المستوى الوطني، الذي يضم اكثر من 350 سجينة، ان تترك بصمتها الخاصة في مجال لطالما اعتقد انه حكر على الرجال .. بصمة لمستها معدة الريبورتاج في الارتياح الكبير للسجينات فور دخولها الزنزانات او الورشات وروضة الامل التي تضم عددا من الاطفال المرفقين بامهاتهم السجينات. كلّفت العميدة بهذه المهمة في سن ال25 عاما، وهو العمر الذي لم تكن فيه مستعدة، وفق تصريحها، لوابل عبارات الاحباط والاستضعاف، كخريجة جديدة اقتحمت مهنة لطالما اعتقد البعض ورسّخوا فكرة، انها مهنة رجاليّة تتطلّب بنية جسديّة قويّة، وصرامة. مع تراكم التجربة، اختلف مفهوم العقاب في نظر مديرة السجن عبر السنوات، وارتقى من التمسك بتطبيق القانون والتعامل الجاف مع السجينات الى عاطفة ومعاملات انسانية ترى السجينات في غيابها عند ارتكابهن اخطاء اشدّ عقاب لهن واكثر ايذاء لانفسهن الهشّة والتوّاقة لمن يواسيهنّ ويخفف عنهن معاناتهن. لم تتأثر العميد بعبارات الانتقاص منها ومحاولات احباطها، في بداية مهنتها، وفق تصريحها، ولم تزدها إلا اصرارا على النجاح لتولّد لديها القوّة والطاقة للمضي قدما، فاضافة الى الترقيات المهنية والتربصات بتونس وفي الخارج، حظيت العميدة بمحطات مضيئة متعددة في مهنتها وآخرها حصولها على الصنف الثالث من وسام الجمهورية في عيد المرأة الموافق ل13 اوت 2020. لم تثلج هذه المحطات صدرها بقدر فخرها بقصص نجاح عديد السجينات ممن غيرن اقدارهن تغييرا جذريا وتغلبن على نظرة المجتمع ووصمة السجن التي تلاحقهن كظلهن، فاشتغلن او انتصبن لحسابهن الخاص، او ادمجن بعائلاتهن بعد نبذ لسنوات وعقاب، أو اعدن بناء حياتهن من جديد.. في المقابل، كانت اقسى خيباتها، تفحصها لملف متهمة وافدة تكتشف انها سجينة سابقة ولاكثر من مرة، واكتشافها ان محاولاتها وبقية اعوان الوحدة السجنية في الاصلاح باءت بالفشل، مع اقتناع بان اسوار المجتمع اعلى من اسوار السجن، وان وصمة السجن تحبس السجينات السابقات في غياب دعم المجتمع المدني، في متاهة ارحب تنتهي بهن في طريق الانحراف .. بأحاسيس ممزوجة بالالم، استحضرت العميد ماعلق بذهنها المحتشد بأوجاع الامس، بانتكاساته بأجمل تجاربه، مشيرة الى ان اقسى القصص الانسانية التي علقت بمخيلتها طول سنوات عملها، هي تواجد اطفال مع امهاتهم السجينات (حتى عمر العامين) والالتجاء الى ايداع طفل بمركز رعاية الطفولة لعدم وجود اي حاضن له من عائلة السجينة .. كما لم تنس مشهد عودة سجينة سابقة طلبت اعادتها الى الزنزانة بعد ان لفظها محيطها العائلي والاجتماعي، وأخريات غادرن السجن بعد سنوات طويلة ليتهن عن منازلهن ولايعرفن الطريق فيما لم تجد اخريات مأوى فور مغادرتهن لتجد نفسها وفريقها بالسجن، متحملة مسؤولية الاحاطة اللاحقة بهن وضمان عدم عودهن للجريمة.. مشاهد وعلى قسوتها لوّنت مسيرة مديرة السجن، وزادت من عمقها الحافل بالتجارب الإنسانية في سجن اعتبرته قلعة تجارب ومخبر حياة بامتياز، دعّم مؤهلاتها كقيادية نسائية نجحت بالصبر والقدرة على تجميع وجهات النظر على اختلافها، والاقتداء بأفكار ولو بسيطة صادرة عن اي شخص، كما حسّنت من مستواها المهني بالتكوين والتربصات، كلما سنحت الفرصة ومنها تربص بالولايات المتحدةالامريكية. وعبر جولة بمختلف ورشات السجن ومنها ورشة الخياطة والطريزة والخط العربي والحلاقة والموسيقى وصنع المرطبات استحضرت العميد بفخر، جملة المبادرات التي قامت بها الهيئة العامة للسجون والإصلاح (الادارة العامة سابقا) داخل السجن في فترة ادارتها للوحدة السجنية، ومنها تركيز تلك الورشات ودعم جهود تأهيل السجينات وتمكينهن اقتصاديا بهدف إعادة ادماجهن في المجتمع وتجنيبهن مسالك الانحراف. وعبر جملة شهائد شكر وتوسيمات لادارة السجن، استعرضت تجربة السجن في تحويل سجينات الى مبدعات وفاعلات في المسرح والغناء والسينما، اذ تم تحويل نزعات الانحراف داخل اغلبهن، الى اداة فعل وابداع فجّرن فيها طاقاتهن، كاشفات عن مواهب خفية ابدعت واقنعت في عدد من فضاءات العروض خارج السجن ونالت الاعجاب . وبفضاء روضة (الامل) للأمهات وأطفالهن، اطلّت العميد صميدة على جانب مشرق اخر في مسيرتها، هناك حيث ارتمى طفل في حضنها، وجذبها اخر من اسفل زيّها محاولا جلب انتباهها، في مشهد طفولي بريء لتؤكّد ان هذا الفضاء الذي ركز سنة 2016 "يعتبر سابقة، وهو يوفر كل المرافق والتجهيزات لمساعدة الاطفال ابناء السجينات على اللعب والترفيه حتى ينمون بشكل متوازن، ويبتعدون به عن أيّ مؤثّرات سلبية قد تسيء لهم". كما استحضرت، بادرة فتح ابواب السجن منذ سنة 2017 لتنظيم موائد افطار جماعية مع عائلات السجينات، وربط الصلة بين سجينات وعائلاتهن بعد مقاطعتهن لسنوات وقيام اعوان مكتب الادماج والرعاية اللاحقة بالتنقل الى أماكن ريفية للقيام بالصلح وربط صلة الرحم. ولم تنس تجربة تحويل ورشة الخياطة منذ الموجة الاولى من فيروس "كورونا" التي انتشرت في تونس، الى وحدة خياطة الاقنعة الواقية وتوفير الالاف منها لدعم جهود التوقي من الفيروس داخل السجون والمستشفيات والثكنات العسكرية ولتلبية الحاجيات الوطنية في المجال وإتاحة استغلالها لمختلف الأجهزة العاملة. لم تؤثر تجربة العميد صميدة المهنيّة على حياتها كأمّ، اذ تدرّبت في مهنتها وفي أوج شبابها على معاني العطاء والحنان في الوقت الذي انتظر فيه البعض تصلّب مشاعرها وتجمّد طبيعتها الانثويّة، لينعكس ايجابا على ابنائها الثلاثة الذين تدرّبوا بدورهم على تحمل المسؤوليّة، وتفهموا تفرّغها لمهمّتها الانسانيّة والاجتماعية،كمديرة سجن. مهمّة، تعلمت منها ان الاحترام يٌكتسب ولا يٌطلب مفسّرة ذلك بمثل "وين تحطّ نفسك تصيبها" والمرأة في مواقع القرار لايمكن ان تثبت ذاتها سوى بكفاءتها وبصبرها على مواجهة الصعوبات التي قد تواجهها، ومحاولات احباطها وأحيانا من بنات جنسها. وتضيف قائلة لطالما احترمت من خالفني، وقدّرت من كان قاسيا علي قائلة ان حكمتها في الحياة وما تعلمته من تجربتها في السجن ان الجميع يستحق فرصة ثانية وان ما ينقص المراة هو الايمان بقدراتها وامكانياتها وقدرتها على التغيير. أخبار "وات" المنشورة على باب نات، تعود حقوق ملكيتها الكاملة أدبيا وماديا في إطار القانون إلى وكالة تونس افريقيا للأنباء . ولا يجوز استخدام تلك المواد والمنتجات، بأية طريقة كانت. وكل اعتداء على حقوق ملكية الوكالة لمنتوجها، يعرض مقترفه، للتتبعات الجزائية طبقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل