بقلم حامد الماطري ما تعيشه البلاد في هذا الأسبوع هو على مستوى من الدّقّة لا يحتمل القراءات السطحية، ويحتاج الى معالجة شاملة. لذا أرجو قراءة النص -على طوله- حتى النهاية وعدم التوقّف عند أي فكرة مجتزئة. لنتّفق بدايةً على الأساسيات: الولاء قطعاً وأوّلاً للوطن، ومن ثمّ للمسار الديمقراطي والانتماءات الفكرية أو الحزبية أو غيرها. كذلك، لا يمكن لأيّ فاعل سياسي يحترم نفسه أن ينعزل عن نبض الشارع أو يتجاهل الرّأي العام، ولو كان ذلك انتصاراً للقانون أو الدّستور. لذا، وبالرغم من كوني "ممحوناً بالديمقراطية". لست خجلاً أن أقول بأنني من بين الذين سعدوا بخبر الانقلاب... على أساس أن قراءتي الشخصية تعتبره -بديهياً- انقلاباً وخروجاً صريحاً عن النّصّ الدستوري. ان حجم العبث الذي انخرطت فيه المنظومة الحاكمة منذ سنوات، ولا سيما منذ الانتخابات الاخيرة، مع عرقلة حكومة الفخفاخ ومن ثمّ اسقاطها تحت عناوين توسيع الحزام، وتوالي عمليّات المخاتلة والمغالبة حتى صارت عرفاً للعمل السياسي، وتواصل الاستهتار بالمصلحة العليا للبلاد، وعموم حالة الفوضى والرداءة وانغلاق الآفاق، كل هاته العوامل جعلت مستوى الرّفض لمنظومة الحكم الحالية -بل لكل المنظومة السياسية عن بكرة ابيها، حكماً ومعارضة- يبلغ مداه. كذلك الانسداد الذي كنّا نعيشه جاثماً على صدر البلاد والعباد ويكاد يكتم أنفاسنا جميعاً، لا سيما وأنه تجاوز المسألة السياسية ليصبح عنواناً لكوارث صحّيّة واقتصادية كبرى، وخطورة كونه صار يهدد وجود الدولة من أساسه. وحتى الديمقراطية التي صار يتباكى عليها قيادات حركة النهضة وائتلاف الكرامة، كانت ديمقراطية مشوّهة فاسدة فاشلة، عمادها الفوضى والانتهازية والكذب، جعلت الناس تكرهها وتعتبرها مصيبة حلّت بالبلاد. لا يمكن عزل ما حدث في 25 جويلية عن هذا السياق الذي جعل تواصل الأمور بما هي عليه أمراً مستحيلاً، وجعل الشارع سينفجر فرحاً لأي تحرّك يخرجنا مما كانت تعيشه البلاد من أزمة وسيرى صاحبه في صورة المنقذ المخلّص. وكان جليّاً أن هذا الحلّ لا يمكن أن يكون تقليديّاً، بل كان سيأتي عبر ثورة عارمة مدمّرة (قد تتحوّل إلى احتراب شعبي)، أو انقلاب عسكري أو أمني أو غيره. من بين كل الأطروحات المتوفّرة أفضّل طبعاً أن يكون "انقلاباً دستورياً" سلميّاً من داخل المؤسسات الدستورية المنتخبة، ومن شخص بخلفية أكاديمية قانونية ويشهد له بالصّدق مثل قيس سعيد (وان كنت لا أتفق مع اطروحاته الشعبوية). لا شكّ في أن ما حدث كان ضرورة حتمية لوقف جبروت النهضة ومواليها وانقاذ البلاد من حمام دم كنت اراه سينطلق بعد اسابيع قليلة. بل أن الكثيرين يرون أن تحرّك الرّئيس أنقذ حركة النهضة من نفسها، من غطرستها ومن ثورة عارمة ضدّها ربما كانت ستأخذ مجريات دموية. اما وقد حدث ما حدث، والتقط الرئيس اللحظة ونفّذ ما كان ربما محاولة لانقاذ للبلاد، فإنني -وإن كنت أتقاسم جزءاً من غبطة التونسيين- لست أرى أن دور الفاعلين المدنيين والسياسين ينطوي على النزول للشوارع مع المزمّرين (تحت عنوان مجاراة المزاج الشعبي ومحاولة استباقه او الركوب عليه) بل أن يستقرؤوا مآلات الامور، مع ضرورة الفصل بين العاطفة والتحليل، وأن نضع انفسنا عند الضرورة في موقف الناصح لرئيس الجمهورية حتى لا تستحيل الفرحة الى انتكاسة، أو خيبة أمل. واذا تمايز موقف أغلب القوى المدنية والسياسية عن المزاج الشعبي العام عبر تعبيرهم عن شيء من القلق، فهذا ليس أسفاً عن المنظومة السابقة بقدر ما هو قراءة في قادم التحدّيات. قراءة لا تقتصر على الطّرح القانوني، ولكنها ايضاً تنسحب على الطّروح المبدئية، بل والبراغماتية. حتى لا يتحول الفصل 80 من حلّ إلى مأزق.. تفهّم ما حدث في الأيام الأخيرة، ومساندته، لا يمنع من تعاظم القلق إزاء قادم المحطات. قد ينزعج البعض مما يرون أنه نشر للاحباط أو كسر لعزائم الشعب المبتهج، فيبدو أن من الضروري التذكير بأن المصلحة الوطنية ليست دائماً منوّعة "ما يطلبه المستمعون".. كما سبق ووضّحنا، السياسة قراءة، معلومات، تحليل واستشراف... -1يدلّ وقع الاحداث في الايام القليلة الماضية ان الرئيس لا يحمل برنامجاً واضحاً أو خطة طريق مسبقة لما سيقرّه بعد خطواته الأولى -والكبرى- بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وعزل رئيس الحكومة ودفع القضاء لفتح العديد من القضايا المتروكة. بشكل عام، نعرف الأسماء المقالة وليس لدينا أية فكرة عمّن يعوّضهم. رئيس الحكومة لم يعيّن بعد، وقائمة التساؤلات حول الخيارات السياسية والاقتصادية والمالية المستقبلية لا تنتهي، وما من اشارة تدفع على الاطمئنان سوى دعوات الطّمأنة... -2المنطق يقول أن من المستبعد ان يقع التّقيّد بمدّة الشهر التي ينصّ عليها الدستور في شأن الأحكام الاستثنائية، كما لمّح بذلك الرئيس أكثر من مرة، وهي على الأغلب سيقع تجديدها بما سيطيل الوضعية الضبابية وتداخل السلطات التي نعيشه منذ ايام. فكيف سيكون التعامل مع القوانين واعتماد القروض وغيرها من صلوحيّات المجلس النيابي؟ وبغضّ النّظر عن وجاهة المسألة، إلى أي مدى سيكون ممكناً لقرطاج أن تجمع بين كل الصلاحيات والمسؤوليات، وهل أن القصر مجهّز بالكفاءات اللازمة -عدداً ونوعاً- للإحاطة بهذا الكمّ من الملفّات. واذا كانت أغلب الأهداف التي يدفع نحوها الرئيس تعنى بتحقيق العدالة في جملة من القضايا التي تهم الفساد السياسي والمالي، التخابر أو التآمر، فمن المعلوم أن الزمن القضائي بطيء ونستبعد أن يكون من الممكن الوصول الى أحكام فاعلة، تحدث التغيير المنتظر، في قضايا كبرى وفي مدد وجيزة من شهر أو حتى بضعة اشهر. -3من المعلوم أن العنوان الذي دخلنا به السنة الحالية هو الفتق الذي تعاني منه الميزانية العمومية.. المسألة تتجاوز مسألة الأموال المنهوبة بمراحل، فاقتصادنا هيكلياً يعاني من عجز كبير وفشل في تحقيق الثروة وخلق مواطن الشغل. هذا العجز الهيكلي يحتاج الى برنامج اصلاح صعب ومؤلم، ينطوي على تخفيف كتلة الأجور ومراجعة الدّعم، ناهيك عن حاجتنا الماسّة لدعم الصناديق الدولية لتأمين المرحلة الانتقالية. أن نضيف للأزمة الاقتصادية أزمة سياسية عشناها طوال النصف الاول من السنة الحالية، فإن تصعيد الأمور بتجميد المؤسسات تماماً، أو صداماً مع المنظمات الوطنية الكبرى لن يخدم الاقتصاد التونسي بل سيزيد من اختناقه. هل ستكفي "دعوة التجار لتخفيض الأسعار" لتحسين معيشة التونسيين، أم أنها سترفع سقف توقعاتهم في غير محله؟ -4ردود الفعل الدولية تجاه ما يحدث واضحة جليّة، وان بقيت غير صدامية في الوقت الحالي. جيراننا في المغرب العربي يزعجهم أن تدخل تونس في مرحلة من عدم الاستقرار، وكذلك جيراننا بالشمال الأوروبي. والمتابع لما تتناقله كبرى الصحف الامريكية، موقف البيت الابيض أو بيانات الخارجية، يخلص بوضوح إلى أن الولاياتالمتحدة لا تنظر بعين الرضا لما يحدث في تونس، لا سيما وانها استثمرت كثيراً في مشروع الديمقراطية التونسية. طبعاً يمكن القول بأن الشعب التونسي سيد نفسه ولا يهتمّ للمواقف الاجنبية، وهو كلام صحيح لاغبار عليه، ولكن الموقف الدّولي يحمل عموماً تأثيراً كبيراً على أيّ عملية تحول سياسي، بالسلب أو بالايجاب، كما أذكّر بأننا لازلنا في قلب أزمة مالية استثنائية تهدد كل موازنات البلاد، ولسنا نبالغ ان قلنا أن الدولة قد تحتار في توفير جرايات شهر أوت اذا لم فشلت في تأمين الدعم الاجنبي. ربما كان هذا سبب النبرة الخافتة نسبياً في توصيف الاحداث في تونس او موقف القوى الدولية منها، فلو اعتبرت أن ما حدث في تونس انقلاب، فهذا سيحمل تبعات كثيرة وكبيرة، تتوقف معها كل المساعدات، بل وتعلّق عضوية تونس في عدد من المنظمات الدولية... لذا، اعتمدت القوى الدولية سياسة ضغط متدرّج سيتعالى معها صوتها مع مرور الزمن، وان كانت دعوتها "للعودة الى الشرعية الدستورية" عنواناً واضحاً لتوجّهها. لا شك في أن من مصلحة الجميع العودة بالبلاد الى وضعية عادية، فنحن مقدمون على خريف ساخن ومعادلات صعبة جداً جداً قد نعجز عن تحقيقها، وأخشى ما أخشاه أن تنقلب مظاهر الفرحة التي شهدناها في الايام الاخيرة الى انتكاسة وخيبة أمل، إن بلغت البلاد منطقة الخطر وهي لاتزال في وضعية انقسام وتوجّس أو انعدام رؤيا.. لا بد من العمل سوياً على ايجاد مخرج "صحّي" للأزمة الراهنة، مخرج يبني على المكتسبات ويصلح مواضع الضعف والخلل، مخرج يحترم ارادة الجماهير ولا يسمح بالانزلاق في مسار ضبابي وطريق زلفة محفوفة بالاخطار والمطبّات. الخطأ في التشخيص ينتج عنه خطأ في العلاج.. ما من شك في سلبية الدور الذي لعبته النهضة منذ انطلاق التجربة الديمقراطية التونسية بعد ثورة 2011. وقد جاء تحميل الشارع التونسي لحركة النهضة مسؤولية الوضعية التي تعيشها البلاد اليوم واضحاً جلياً، في مشاهد ذكّرتنا باستهداف مقرّات التّجمّع منذ عشرة سنين، بينما لا يزال جزء من قيادات الحركة يصرّون على تجاهل الغضب الشعبي والمواصلة في الحذلقة وتعليل ما حدث بقراءات مؤامراتيّة منقطعة عن الواقع وتتجاهل أبسط البديهيات. وسواء على مستوى عدم استشراف ما حدث (بالرغم من التحذيرات التي كانت تنصحهم من كل حدب وصوب)، أو عجز الحركة عن قراءة الواقع (ونحن نرى راشد الغنوشي يحاول مناشدة المجتمع الدولي للتدخل عبر ابتزاز اوروبا في أمنها وحدودها!) أقف حقيقة عاجزاً عن فهم كل هذا الافلاس الاستراتيجي وكل هذا الفشل في التقدير والتحليل. ولكن تبقى حركة النهضة، بفسادها وغطرستها وكل أساليبها المكروهة، مجرد تمظهر لمشاكل أعمق تعاني منها ديمقراطيتنا الناشئة. أجد نفسي مضطراً أن أذكر أن افلاس جميع الطبقة السياسية -بلا استثناء- هو الذي تسبب في خلق وضعية الانسداد السياسي الذي قادنا إلى 25 جويلية 2021. هل يجب أن أذكر أن الانتخابات كثيراً ما كانت عملية غير نزيهة اخترقها المال السياسي والتأثير الاعلامي وحملات التشهير والاستقطاب والحسابات واللوبيات؟ لقد تولّى حكمنا في "سنوات الثورة" اشخاص مثل الهاشمي الحامدي وسليم الرياحي ونبيل القروي والبحري الجلاصي وشفيق الجراية وغيرهم من الظواهر التي تعكس فساد المسار الديمقراطي من أساسه. هل ننسى كمّ الفضائح الذي خرج إلى العلن مع انفجار حزب نداء تونس، والذي كانت يفترض أن يبعث بنصف الساحة السياسية الى السجن بتهم تتراوح من تهريب العملة الى الخيانة والتجسس لصالح جهات اجنبية. هل ننسى أن أياً من هؤلاء لم يقع حتى استدعاؤه للتحقيق؟ هل ننسى أننا بلغنا مستوى من الشعبوية صار معه هتك الأعراض واثارة النعرات الفئوية والجهوية، والتراشق بالاتهامات والمداخلات الاستعراضية وترذيل الدولة ومؤسساتها عناوين حضور وسبيلاً للنجاح في الانتخابات؟ إن قضاءنا مريض، وإدارتنا مريضة، والعملية السياسية مريضة حدّ السّقم، تماماً كما هو المجتمع الذي خرجت من رحمه هاته العاهات. من يريد التركيز على حركة النهضة، أو البرلمان، كأمّ الشرور في البلاد سيخطئ العنوان حتماً. ذهابهما لن يعني انصلاح حال البلاد بقدرة قادر، تماماً كما لم يكن رحيل بن علي والطرابلسية كافياً للقضاء على الفساد أو البيروقراطية أو الظلم في مراكز البوليس وهتك كرامة المواطنين. بدل السعي وراء اجتثاث النهضة، حريّ بنا أن نجتثّ الظواهر والأطر التي سمحت بتفشي سلوكيات الفساد السياسي، عند النهضة وعند غيرها، ومعالجة التوازنات التي أبقتها عصيّة على المحاسبة. القضاء على الأعراض سيكون حبّة مسكّنة ستفشل في العلاج لتعود الآلام من جديد، وإن كان في مواضع أخرى. بدل أن ننقم على الساحة السياسية ونعتبرها منبع المآسي، علينا أن نتدارس كيف نصلحها ونجعلها تستقطب خيرة من في شباب تونس لا سقط متاعهم (حاشى قلّة مناضلة مرابطة). علينا أن نعالج السلّم حتى يتقدّم علينا ليحكمنا من هم الأفضل بيننا، لا أمثال طوبال والخياري والبحيري (للذكر لا للحصر فليس أي فصيل سياسي -بما فيه الحزب الذي انتمي اليه- منزّهاً عن الرداءة، ولو اختلفت الدرجات والأشكال). ستهدأ الهبة الشعبية ومشاهد الفرح العارم بعد ايام قليلة، وستعود الناس الى مشاغلها وهمومها اليومية، وسنجد انفسنا من جديد امام تحديات كبرى لا يمكن ان نتجاوزها بدون وحدة واجماع وطنيين. الأكيد هو ان على الجميع تجنّب المغالبة والمكابرة، او الاسراع باعلان الانتصار، فالخطر يهددنا جميعاً بلا استثناء، والانتصارات الصغيرة لن تذهب باصحابها بعيداً. الوضع جلل بكل المقاييس وعلينا جميعاً التحلي بالرصانة والمسؤولية وتغليب العقل والوحدة والمصلحة الوطنية. لكنني وبقدر ما احمل من مخاوف وتوجّسات، استطيع ان ارى في ما نعيشه اليوم فرصةً وتحدي. فرصة للإصلاح والمحاسبة في مواضعها. الحلم والتفاؤل وحدهما غير كافيين، لكنهما ضروريان لفتح آفاق جديدة واستنهاض العزائم والمحاولة من جديد. هي فرصة نستطيع ان نحسن توظيفها عبر الاتعاظ بالدروس والاخطاء، ومراجعة الذات والعمل على اصلاح المسار. او ان نضيعها فنواصل الانزلاق سوياً نحو القاع، ولن يهمّ كثيراً آنذاك ان تكون كفّة الميزان من الحسنات -او من الاخطاء- مائلة في هذا الاتجاه او ذاك.