كنت مارا بأحد الأنهج القريبة من شاطئ البحر فاستوقفني أحد الأصدقاء أمام بيته وطلب مني أن أدخل إليه ففعلت فإذا برائحة كريهة وقوية تستقبلني من الباب تزداد قوة وكثافة كلما واصلت دخولي. وكانت الأرضية محفورة ومسكوبا عليها مواد مختلفة الألوان من الأحمر إلى الأخضر إلى الأسود لم أعرف ماهيتها، واُقتلعت منها مربعات الجليز. وكانت الجدران ملوثة بعدة أوساخ ومكتوبا عليها عبارات الحب والعشق والهيام بالفحم والطباشير والدم (نعم الدم) ومنقوشا عليها أو محفورا فيها الحروف الأولى لأسماء بعض الفرق الرياضية باللغة الفرنسية. وعُلقت على جدار إحدى الغرف مرّارة خروف وذنب سمكة كبيرة. أما أسقف الغرف فقد زُيّنت بقطع من الورق الذي يقع مضغه بالفم ثم يُرمى إلى السقف فيلصق هناك في أشكال وأحجام وألوان مختلفة. واُقتلعت المفاتيح الكهربائية من أمكنتها فلا ترى إلا " فرتها " من الأسلاك ونُزعت أغطيتها الصفراء كما أُخذت كل المصابيح الكهربائية. أما المرحاض فكانت جدرانه عبارة عن لوحة زيتية من فن القذارة وقد رُسمت ب ... (...). ودخلت المطبخ ويا ليتني ما فعلت فقد كان السقف قاتم السواد، أما المربعات الخزفية التي تغطي الجدران فقد طُمست ملامحها ووقع اقتلاع بعضها. وقد أردت الخروج من المطبخ فلم أفلح لأن حذائي التصق بالأرضية المغطاة بالزيوت والشحوم ، واضطررت إلى القفز خارج المطبخ بدون حذاء مما دفع بصاحب البيت إلى أن تناول عصا طويلة (عصا "الغولة" وهي الشيء الوحيد الموجود وقد استغربت ذلك لأن البيت سقف وقاع ) ورفع بها الحذاء بعد جهد جهيد. فسألت صديقي: ما هذا؟! لماذا أصبح بيتك الجميل على هذه الحالة والصورة المفزعة؟! وكيف ترضى أن يكون كذلك؟! فأجاب بحزن بالغ: ما باليد حيلة، وتلك عاقبة من يتسرع ويتفرد في أخذ قراراته! لقد كنت أقطن هذا البيت كما تعلم بعد أن أنشأته "من دم قلبي" وبما أن ظروفنا الحالية ليست على ما يُرام قررت أن أعود إلى المنزل القديم وأسوّغ بيتي هذا (لم يعد بيتا الآن وهو أقرب إلى الزريبة) إلى أحد المصطافين حتى أضمن لنفسي مورد رزق إضافيا، وكان الأمر كذلك وقد توسمت في المتسوغ كل الخير خاصة بعد أن أخبرني أن عائلته قليلة العدد: هو وزوجته وابنتاهما. ومرت الأيام الأولى بسلام ولكن بعد ذلك صار البيت "يملأ ويفرغ" بأقاربه وجيرانه وأصدقائه بحيث بات منزلي "كالوكالة" إذ أن المتسوغ يستقبل الضيوف وخاصة الجيران والأصدقاء بمقابل وقد أكد لي أحدهم أنه ( المتسوغ ) يقبض "على الراس الواحد" ثلاثة دنانير لليلة الواحدة. النور الكهربائي مفتوح ليلا نهارا والآلات الكهربائية لا تحصى ولا تعدّ. و الأغرب من كل ذلك أنهم يأتون بأغطيتهم وملابسهم الشتوية ليغسلوها في هذا البيت بما أن الماء "بوبلاش". وقاموا دون إذني بجني ثمار الأجاص والتفاح والعنب والتين من الحديقة الخلفية وأكلوا ما أكلوا والبقية باعوه إلى أحد الخضارين وحتى الشجيرات اقتلعوها حتى يغرسوها في حدائق منازلهم. وها أني أنتظر فاتورتي استهلاك الماء والكهرباء وما ستتضمنانه من كميات استهلاك مفزعة ومبالغ مالية لا قدرة لي على دفعها. فقلت لصديقي: الله يخلف ودفع الله ما كان أعظم , واحمد الله أن بيتك مازال موجودا وأن الأبواب والنوافذ لم يقع اقتلاعها من أمكنتها وأنهم لم يطلبوا منك أن تدفع لهم"الهبوط" وأن تسدد لهم أجرتهم لقاء شطارتهم وإبداعاتهم ومهاراتهم وفنياتهم في ما تركوه لك في أسقف الغرف وعلى جدرانها من ديكورات القذارة !!