بقلم : سمير السعدي (*) لست أدري لماذا خلت أغلب المنابر الاعلامية و البرامج التلفزيونية في تونس من مواضيع جادة تنهض بالمستوى الفكري و الثقافي للمشاهد حتى أصبح "السحر والشعوذة" مادة اعلامية نفيسة و مهمة يتم الترويج لها في البرامج التلفزيونية التونسية بينما يعيش التونسيون في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية ونفسية قاسية. آخر هذه البرامج "التلفزيونية المميزة" هو برنامج سمير الوافي " وحش الشاشة" وحلقته بعنوان" مسحور ام مريض نفسي...؟!!". قرر سمير الوافي أن يقدم للمشاهدين جرعة خوف جديدة عوضا عن فهم مشاكلهم وعرض وجهة نظرهم حيال واقعهم. لقد اندهشت للطريقة التي تم بها عرض هذه الظاهرة. لم يتضمن البرنامج أي تحليل اجتماعي أو نفسي لظاهرة السحر. كان غياب المحلل النفسي و الاجتماعي هو الفضيحة في هذه الحلقة. كيف يمكن مناقشة الخوف والذعر والإيحاء والوهم والانهيار العقلي بدون خبير يفهم كل هذا؟ الجواب بسيط: لأن الهدف لم يكن شرح هذه الظاهرة، بل استغلالها. وجود شيوخ دينيين لم و لن يغني عن حضور محللين نفسيين و اجتماعيين فظاهرة السحر و الشعوذة هي خليط من اسباب نفسية و اجتماعية قد تتخذ في بعض الاحيان ايحاءات دينية من خلال ما يعرف بالمس او اللبس او غيرها من المصطلحات . أخبار ذات صلة: عمادة الأطباء تتقدّم بشكاية ضد برنامج تلفزي عرض محتوى حول "علاج السرطان بالتطبّب والتدجيل"... لم تنته السخافة عند هذا الحد فقد قام البرنامج بتوريط المشاهدين في نقاش ديني عقيم حول تفسير نصوص القران لظاهرة الحسد و السحر، وحول ما إذا كان موسى مسحورا أم لا، وما إذا كان السحر يمكن أن يؤثر على الأنبياء. أخذ الشيخ الموقر يعيد سرد القصص على مسامعنا ويبحث في النصوص التي تؤيد كلامه ، بينما تورط حسن العثماني بثقافته الدينية المتواضعة ان لم نقل المعدومة، في توجيه اتهامات سطحية غير مبررة لمحاوريه. كنا شهودا على نقاش معقد للغاية, جدال عقيم، يخلو من المنهجية والعمق والاستنتاجات. الوافي حول القلق الجماعي إلى ترفيه. عوضا عن تسليط الضوء على المسببات الحقيقية لتفشي السحر كالضغط النفسي والفقر والتهميش فإن البرنامج قدم للمشاهد "حربوشة" سهلة الهضم: "أنت ضحية السحر ومشاكلك هي نتاج قوى خارقة و غير مرئية". هذا النوع من المحتوى يعزز الخرافات بدلا من دحضها، مما يجعل المواطنين أكثر استسلاما بدلا من التوق الى الحرية و مجابهة الخوف و المخاوف. هذا النوع من وسائل الإعلام يصبح جزءا من الأزمة بدلا من أن يكون حلا لها. أجل، هذه الظاهرة هي حقيقة وموضوع جدير بالنقاش ولكن ليس بهذه الطريقة, فبدون تحليل نفسي وبدون تفسير اجتماعي وبدون منطق ديني قوي لا نضيف شيئا للمشاهد و للمجتمع سوى مزيد من الارتباك. الجمهور الذي يهتم بقصص السحر و يجد فيها تفسيرا لمشاكله هو في الحقيقة ليس غبيا بل هو ببساطة مستنزف عقليا. الناس عندما يشعرون بالعجز أمام ضغوط الحياة، يلجأون إلى تفسيرات خارقة للطبيعة تمنحهم وهم السيطرة. وهنا تستغل وسائل الإعلام الهشاشة العقلية بدلا من مواجهتها. في النهاية، يبقى السؤال مطروحا: هل نريد وسائل إعلام تساعد الناس على مواجهة الواقع وتاخذ بايديهم ، أم وسائل إعلام تنفض الغبار عن قضايا لا طائل من ذكرها دافعة بعقولنا الى تقبل أوهام جديدة توهمنا بان مشاكلنا هي من فعل الغير وان لا حول و لا قوة لنا ؟ حتى الآن... يبدو أن الخيار قد تم اتخاذه. * سمير السعدي طالب دكتوراه في قسم التاريخ بجامعة و ارسو ببولندا. تابعونا على ڤوڤل للأخبار