بالطوابير وقف عديد التونسيين أمام مكان إقامة العراف المغربي المدعو كمال المغربي طوال الأسابيع الماضية بحثا عن علاج نفساني مفقود لعلة، أو مرض مزمن، أو غيرها من المشاكل الاجتماعية والنفسية والأمراض البدنية، ليتحول العراف المغربي الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس» في تونس إلى ظاهرة لافتة للنظر جذبت انتباه المختصين والباحثين في علم النفس والاجتماع، وبات حديث الشارع والاعلام التونسيين على ضوء ظهوره في برامج تلفزيونية عدة، كما بات مادة لتندر البعض والسخرية وابتداع النكات. فلماذا يقبل التونسيون بهذه الأعداد الهائلة على التداوي لدى هذا العراف «المشعوذ» رغم ان المجتمع التونسي معروف باحتوائه على نخبة هامة في المجالات الثقافية والعلمية وغيرها؟ انتشار بين مختلف الشرائح تعتبر الدكتورة ألفة والي الغرياني المختصة في علم الإجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية أنه يمكن القول أن ظاهرة السحر والشعوذة هي من أقدم الممارسات الإنسانية وتواصلت في سائر العصور ولا تزال إلى يومنا هذا، فقد عرف قدماء المصريين هذه الظاهرة وكذا أهل بابل وارتبطت لديهم بالمنظور الديني العقائدي. ورغم التقدم العلمي لم تنتف هذه المعتقدات ضمن الأسطورة الفلكلورية بل تواصلت لتسير جنبا إلى جنب مع العلوم الحديثة. ورأت الباحثة أن هذه الظاهرة منتشرة في المجتمع العربي بشكل عام والمجتمع المغربي بشكل خاص، وبحسب نتائج بحث قامت به يمكن تصنيف المغرب في المرتبة الاولى من حيث انتشار هذه الظاهرة عربيا. كما أشارت إلى أن هذه الممارسات في تونس لم تعد حكرا على الأحياء المهمشة والفقيرة بل انتشرت حتى في أرقى الجهات والمناطق وشملت كل الفئات، فقراء، أغنياء، مثقفون، جهلة. ممارسات قديمة وتؤكد محدثتنا أن هذه الممارسات ليست حديثة في المجتمع التونسي لكنها كانت خفية وسرية على عكس اليوم، فقد أصبحت تمارس جهرا. وازداد اقبال التونسيين عليها بعد «الثورة» ولعل ظاهرة العراف كمال المغربي التي انتشرت هذه الأيام هي التي كشفت المستور والمسكوت عنه. فهذا العراف الذي بات حديث الشارع التونسي هو في الوقت نفسه ساحر يتقن فن الوهم والايحاء إلى الزائرين بقدراته على تسخير كل القوى السماوية والأرضية لمعالجة الأمراض وحل كل المشاكل المستعصية من خلال كائنات خارقة وأرواح وجان وملائكة وكواكب، ويتمكن بسهولة من إقناع الزائرين بقدراته الفائقة ويقوم بالدعاية لنفسه من خلال بعض الشهادات لأشخاص يدعي أنه تمكن من شفائهم وحل معضلاتهم. وتضيف الغرياني قائلة «عدة أسباب تدفع التونسيين للإقبال عليه رغم أن المجتمع التونسي فعلا بلغ من العلم والحداثة ما هو كاف لتحصينه من هذه الممارسات اللاعقلانية. لقد ساهمت التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في السنوات الأخيرة في ظهور ثقافة دخيلة، هي ثقافة التخلف الحضاري والعلمي التي غذت هذه السلوكات المرضية وهذا الفكر الخرافي الأسطوري، وقد يفسر هذا بضعف الإيمان والعقيدة من جهة وبقابلية التونسي للتأثر واللجوء إلى الحلول السريعة حتى وإن كانت تتنافى مع معتقداته وديانته». الشعور بالإحباط وتلاحظ محدثتنا أن هذه الممارسات في ارتفاع مستمر مع ارتفاع نسبة الإحباط الجماعي والإحساس بالأزمات المتواصلة وفقدان الثقة في الذات وفي الآخر وفي السياسات والمؤسسات والحكام. فبقدر الإحساس بالفشل، بحسب الغرياني، بقدر ما يلجأ التونسي ويبحث عن مفر، وقد تغذي هذا الإحباط النفسي بسبب سياسة التهميش الإجتماعية و ارتفاع الأسعار والتكاليف المادية حتى لأبسط مقومات الحياة، وستظل هذه الممارسات موجودة طالما لم يتمكن الناس من إيجاد مخرج لمشاكلهم النفسية والعضوية أو حتى الإقتصادية والإجتماعية. الجانب العقائدي وتختم حديثها بالقول: «عامل آخر هام جدا جعل هذا العراف المغربي يجذب التونسيين إليه، هو أنه لعب على الجانب العقائدي، حيث تمكن من إقناعهم بأن ما يقوم به يدخل في خانة «الحلال» من الناحية الشرعية. حيث شرع لهذه الممارسات وأحلها ثم جمع هذا العراف في ممارسته بين ماهو ديني وماهو سحري فهو كما صرح «طبيب روحاني يحقق رغبات الزائرين من خلال وساطات ربانية يتكلف هو بتسخيرها بفضل التعويذات وتراتيل الآيات القرآنية ورش الماء الساخن». فالمجتمع التونسي تتحكم فيه مجموعة من التناقضات والمفارقات، فرغم ما عرف عنه من عقلانية وحكمة إلا أن نسبة هامة منه سقطت في فخ المشعوذين وساهمت مع هذا العراف بدون قصد في تحويل القرآن من نص قدسي إلى نص طلسمي كما حولت الدين الإسلامي إلى ممارسات اسطورية فلكلورية. ولا يمكن استئصال هذه الظاهرة من المجتمع التونسي لكن يمكن التقليص منها و ذلك باتخاذ إجراءات قانونية لمنع هذه الممارسات، كذلك لا بد من توعية الناس بمخاطر هذه التصرفات عبر وسائل الإعلام المسموعة والبصرية والمكتوبة». غياب التوازن الروحي من جهتها تعتبر الباحثة التونسية في علم النفس الدكتورة ريم عبد الناظر أن إقبال التونسيين على العراف المغربي بات أمرا مقلقا. ورأت أنه في غياب التوازن الروحي والفكري والعملي فان أقرب وأسهل وسيلة هي الالتجاء إلى العرافين لطمأنة النفس البشرية وإيهامها ان الحل ان نعرف المجهول بدلا عن تطوير ذاتنا وتقوية علاقتنا الروحية مع الخالق أي كانت انتماءاتنا الدينية. وهي تلاحظ انه مع ازدياد التشدد الديني ارتفعت نسبة الإلحاد كأسهل وسيلة للتغلب على الخوف من المجهول وذلك ل»تجنب العقاب» والهروب من واقع يسوده الضياع الاجتماعي إلى عالم الشعوذة، وفي ذلك إقرار بأهمية العّرافين بدلا من الخالق والعياذ بالله. وأشارت أيضا إلى أن نفور التونسي من الحركات الدينية واقتران بعضها للأسف بالاٍرهاب – الذي لا دين له ولا وطن -كل ذلك هيأ الأرضيّة لإنتشار العّرافين وهو ما جعل أجراس الخطر تقرع اليوم بقوة بسبب تفشي حالة الضياع الفكري في تونس. الحالة التونسية كما شددت الباحثة على ضرورة إدخال معاني التسامح للنهوض بالشباب والوقوف صفا واحدا للتصدي لظاهرة «استعمار تونس» من قبل العرافين القادمين من بلد مغاربي شقيق والذين انتشروا في السنوات الأخيرة انتشار النار في الهشيم. وأضافت أنه يجب أيضا أن يثور التونسيون على هذه العقلية التي تتقبل المشعوذين الذين يمتلكون طرقا وأساليب للدجل ولسلب العقول وإفراغ الجيوب ليزيدوا الطين بلة. فهؤلاء الأشخاص الذين يقبلون على العرافين، في رأي محدثتنا، غالبا ما يستبدلون الطرق العلاجية العلمية بالدجل وذلك بالرغم من أن المعالج النفسي يستطيع أن يرافق و يتابع الشخص إلى حين تحقيق التوازن في المجالات الفكرية والروحية والشخصية بالعلاج السلوكي ودون عقاقير إلا إذا تطلب الأمر ذلك في بعض الحالات. وقالت الأخصائية النفسية أن الحالة التونسية معقدة وأضافت: «إن التونسي قديما وحديثا يتواصل مع هذه الظاهرة ولكن ما نشهده لا يمكن فصله عن المشهد السياسي، ومشهد الحريات العامة التي تشهد انفلاتا في تونس يدفع البعض إلى اللجوء إلى المشعوذين بدلا من الذهاب إلى الاخصائيين النفسيين والاستنجاد بآرائهم والتخطيط معهم وإيجاد استراتجيات للنجاح. وإذا كان المشهد العام مرتبكا ويغلب عليه اللون الرمادي، فإننا نعتقد أن هناك في الضفة المقابلة رجال ونساء وطنيون يؤمنون بكرامة المواطن ويسعون قدر جهدهم إلى جذب المشهد نحو مناطق البياض والرقي ولديهم من الوعي بالأزمة ما يخولهم التصدي إلى ظاهرة الشعوذة والإقدام على معالجة النفس البشرية بطرق العلاج الراقية والمفيدة للفرد والمجموعة، والتونسي لديه من الوعي والنضج الكافيين لمحاربة هذه الظاهرة المتفشية والتي بتكاتف الجهود سيتم القضاء عليها عاجلا أم آجلا أو الحد منها على الأقل». جريمة تحيل من جهة أخرى اعتبر المحامي التونسي محمد درغام المختص في العلوم الجنائية أن ما يقوم به العراف كمال المغربي في تونس من سحر وشعوذة يدخل في باب جريمة التحايل التي نصت عليها المادة 291 من القانون الجزائي التونسي أو المجلة الجزائية. ويتطلب قيام هذه الجريمة توفر عدة أركان مثل استعمال الجاني لطرق إحتيالية كالاسم المدلس أو الصفات غير الصحيحة إضافة إلى الحيل والخزعبلات التي تتمثل في القيام بأعمال مادية وخارجية من شأنها إيهام المتضرر بصحة ما يدعيه المتحايل من أكاذيب وتدعيم أقواله بها كالإستعانة بأشخاص آخرين يؤيدون الأقوال الكاذبة أو القيام بإخراج مسرحي لإقناع الناس بقدرة خارقة على تحقيق شيء ما لبعث أمل في نجاح غرض من الأغراض ما يحمل المتضرر على الاعتقاد في قدرة المتحايل الخارقة على إتيان تلك الأفعال. وما تجدر الإشارة إليه بحسب درغام هو ان المشرع التونسي استعمل صياغة عامة في العبارات ليشمل النص عددا كبيرا من أفعال التحايل تؤدي جميعها إلى تسليم المال. ومن المعلوم أن العمومية في الصياغة للنص الجزائي دليل على تشدد المشرع مع هذه الجريمة التي تشجع على الإستثراء بالطرق السهلة ولهف مال الآخرين دون موجب. عقوبة صارمة ويبرز تشدد المشرع التونسي في هذه الجريمة أيضا، حسب المحامي والخبير القانوني التونسي، من خلال العقوبة التي أقرها لها بالفصل 291 من القانون الجزائي المشار إليه، فمن ثبت عليه التحايل يعاقب بخمس سنوات سجنا وغرامة مالية أي أن الفعلة تصنف في باب الجنايات وهي أشد أنواع الجرائم. كما جرم المشرع التونسي المحاولة في جريمة التحايل رغم أن المحاولة لا يتم العقاب عليها في جرائم أخرى باعتبار أن النتيجة من الجرم لم تحصل، كما ترك الباب مفتوحا للقاضي لتسليط عقوبة تكميلية أو تبعية مثل الحرمان من الوظيفة العمومية وغيرها. كما تبقى إمكانية عودة المتضرر من التحايل حسن النية على الجاني لغرم ضرره واردة لمن يرغب في القيام بدعوى مدنية مستقلة في التعويض أو لمن يرغب في القيام بها لدى القاضي الجزائي بمناسبة نظره في جريمة التحايل. وليحذر المشاركون في الدعاية للعرافين والمدعين بأنهم قد تم شفاؤهم، بحسب محدثنا، باعتبار وأنه قد تتم محاكمتهم من أجل المشاركة في الجريمة، والشريك في القانون التونسي يعاقب بالعقوبة نفسها المقررة للفاعل الأصلي. ويعتقد محدثنا أن النيابة العمومية لم تتحرك ضد العراف كمال ولم يتم تتبعه بسبب جريمة التحايل لأنه ينتمي إلى بلد شقيق وقد عرف عن التونسيين حبهم لأشقائهم مغربا ومشرقا.