ضرْبُ الصحفيّ زياد كريشان و هو خارج من المحكمة بعد حضوره جلسة لمساءلة قناة نسمة حول قضيّة الفيلم الإيراني بلاد فارس منحه تعاطفا مستحقّا من العامّة و الخاصّة، فحتّى رئيس الحكومة و رئيس الدولة عبّرا عن تضامنهما المطلق مع الرجل بعد الشتائم التي طالته و الملاحقة التي أجبرته على الاحتماء بمركز للشرطة. كان المشهد الذي يصوّر الواقعة يعكس قسوة الغاضبين على كريشان، و الذي يفسّر على أنّه ردّ فعل مماثل لقسوة جريدة المغرب على الحكومة و على الترويكا و على النهضة و على كلّ من حالفها أو ساعدها أو آزرها. و لكنّ الديمقراطيّة و حرّيّة التعبير تقتضي أن يكون لكلّ صحيفة خطّها التحريريّ، فبعض صحفنا و إذاعاتنا المسموعة أو المرئيّة كانت في الماضي القريب تسير كعادتها في خطّها المستقيم الذي يساند السلطة بصفة مطلقة و يصفّق لكلّ ما تقوله و ما تفعله، و اليوم نجد القليل من هذا النوع الذي يسير ذلك السير و لكن باحتشام. و البعض الآخر ابتعد عن الخطّ المستقيم و اختار السير على خطّ متكسّر أو معارض تماما، فلا نرى من المقالات أو البرامج إلاّ ما ينتقد و يهدم كلّ ما تعلنه السلطة القائمة من مبادرات، و لا نسمع إلاّ ما يشكّك في النوايا بلسان نمّام إلى حدّ ترويج الأكاذيب و الأباطيل و تضخيم بعض الأحداث و اختراع البعض الآخر إضافة إلى المسّ من أعراض الناس و الاعتداء على كرامتهم الجسديّة و المعنويّة. هكذا هي الصحافة التونسيّة اليوم، قليل مدّاح لسياسات الحكومة ما يقرّبه إلى النفاق و يعرّضه للتنفير، و كثير هجّاء همّاز، مشّاء بنميم يُتّهم ببثّ الفرقة و الشقاق ما يعرّضه للتكفير. و العمل الصحفيّ المُراد، يحتاج إلى معادلة مغايرة يعجز عن إدراكها الكثيرون للأسف الشديد فلا يفهمون سبب التثريب عليهم أو استبعادهم عن ذلك النشاط، فيعبّرون عن استغرابهم من الأمر، و قد حدث هذا لهيثم مكّي الذي استبعد من برنامج حديث الساعة للصحفي إلياس الغربي، و ربّما أساءت أو أحسنت القناة الوطنيّة أو الغربي أو من أخذ ذلك القرار لا تصديقا لما يروّج عن الرجل من تكفير أو تشكيك في نواياه، و إنّما لأنّ فقرة المكّي لا تبدو في محلّها، و لعلّ مداخلاته التهكّميّة تقرّبه من نوعيّة الأعمال الطريفة لسلسلة سايس خوك على إذاعة موزاييك منها إلى عمل محترف في برنامج سياسيّ جادّ. و ليس من الصعب التفطّن إلى التنافر الذي ينشأ عن إقحام ما يأتي به المكّي من أخبار الفايسبوك بكلّ ما فيها من رداءة أحيانا في سياق يعقب معطيات ذات أهمّيّة لضيوف البرنامج. و لعلّ الخطأ الصغير الذي اقترفه المكّي في حقّ نفسه استقالته من قناة نسمة حيث كان في محلّه المناسب من حيث المكان ومن حيث فكرة البرنامج الذي يقدّمه. أمّا الخطأ الكبير الذي وقع فيه فقد يكون دخوله العمل الصحفيّ دون تمكّن من أبجديّاته و مواثيقه... الصحفيّ الحقيقيّ الذي سيحالفه النجاح حتما هو الذي يستند في عمله إلى ميثاق شرف المهنة فيقدّس الخبر قبل الأشخاص و يتحرّى صدقه قبل نشره و يقف على الحياد تنزّها عن الدخول في خندق الأحزاب و خدمة مصالحها الضيّقة و حساباتها السياسيّة الآنيّة التي تتغيّر مع تغيّر الأوضاع المحليّة و العالميّة. و الصحفيّ الشريف النزيه عليه واجبٌ يقدّم فيه اليقين على الشكّ و الواقع على الخيال و المصلحة العامّة على الخاصّة، و يجلب به الفائدة للدولة قبل الحكومة و يسعى به لخير الخزينة العامّة قبل رصيده الخاصّ. و في ذلك كلّ الحرفيّة و المهنيّة و وسام الشرف الذي لا يُنال إلاّ بتلك المسافة الصغيرة التي نفصل بها قناعاتنا و ميولاتنا و مصالحنا الخاصّة عن تناولنا للشأن العامّ في مقالة نكتبها أو في برنامج حواريّ نعدّه أو في نقاش نديره. و مع ذلك، فلا يخطرنّ ببالك أنّ هذا الخطّ سيضعك أيّها الصحفيّ في منأى عن التهجّم أو التهديد أو العنف. على العكس تماما، سيتمنّى الكثيرون صمتك و سيعمل آخرون على إسكاتك بشكل أو بآخر. و من الصحافة ما قتل.