ردا على ما جاء في الفيديو المسرب والذي تعرض فيه الوزير الأول السابق الباجي قائد السبسي للحقوقية السيدة سهام بن سدرين , نشرت الأخيرة الرسالة التالية. بقلم سهام بن سدرين لَشَدَّ ما حزنتُ على بلَدي حين استمعتُ إلى مقطع صوتيّ من المُحادثة الخاصّة التي دارت في القصبة بين السيّدين الجبالي وقائد السبسي بتاريخ 26 ديسمبر 2011 بمناسبة إجراءات تسليم السلطة. ولشدَّ ما أحسستُ بالخجل من المستوى الذي انحدر إليه الجدل العامّ في تونس. لقد عرفت بلادنا مستوى أفضل من هذا، وهي تستحقّ مستوى أفضل، خاصّة في هذه المرحلة التي تحتّم علينا أن نتوحّد ضدّ العنف السياسيّ. سأعود إلى المضمون بعد أن أطرح السؤال الأوّل الذي يخامر الذهن: من يقف وراء تسريب هذه المحادثة ولماذا الآن؟ لو افترضنا جدلاً أنّ الطرف الذي قام بتسريبها مهمومٌ بكشْفِ الحقيقة للمواطنين فلماذا لم يفعل ذلك منذ ديسمبر الماضي عند حدوث الأمر؟ ومن الذي كان على علم بهذه المحادثة الخاصّة؟ إنّ من السهل على ذوي الاطّلاع الانتباه إلى أنّ جودة التسجيل ليست في متناول الهواة وأنّ التقاط الصوت تمّ بواسطة جهاز متطوّر والأرجح أنّه جزء من المعدّات المزروعة في مكاتب أصحاب القرار. من ثمّ أميل إلى الاعتقاد بأنّ مصدر التسجيل جهة أمنيّة تريد للمرحلة الانتقاليّة أن تفشل وتسعى إلى تمهيد الطريق أمام انقلابٍ ما. هل هي جهة نظاميّة أم جهة موازية في خدمة أطراف غامضة؟ ذاك ما سيكشف عنه التحقيق الموعود إن تمّ. لهذا السبب لن أقع في فخّهم ولن أُستَدْرَجَ للانقضاض على القماشة الحمراء التي يلوّح بها مصارع الثيران. إنّي أحتفظ بما يكفي من الوعي كي أفهم أنّ مُحرِّك الدُّمَى ليس السيّد الجبالي وليس قائد السبسي، فهما إلى لعب دور الدُّمى أقرب في أوبرا القروش الأربعة التي يتمّ عرضُها راهنًا. أعود الآن إلى المضمون لأقول إنّ العبارات البذيئة التي أمكن الاستماع إليها لم يكن ضحيّتها شخصي بل شخص من تفوّه بها وشخص من أنصت إليها موافقًا. إنّها عبارات لا تليق برجال دولة يُتوقَّع منهم أن يكونوا في مستوى مهمّتهم الجمهوريّة وأن يكونوا قدوةً في أفعالهم وأقوالهم. هل من حاجة إلى التذكير بأنّ من أسباب احتقار الشعب التونسيّ لبن علي لغته البذيئة؟ والحقّ أنّي لم أُفاجَأ بتلك الكراهية البدائيّة للعنصر النسائيّ، التي تَساوَى فيها اللائكيّ والإسلاميّ عند تقييمهما للذكاء السياسيّ لشخصيّتين نسائيّتين من رموز مقاومة الديكتاتوريّة. إذا كان دماغنا الأنثويّ بهذه الدونيّة فلماذا الاهتمام بذكرنا في محادثة تسليم السلطة؟ لماذا الانزعاج إلى هذا الحدّ من هذين المرأتين غير المعنيّتين بالسباق على السلطة الذي يمثّل هوَسَكُما؟ هل لأنّهما لا تخافان ولا تتردّدان عن الإصداع بالحقيقة الموجعة؟ أمّا بالنسبة إلى الأحداث المرويّة فيؤسفني حقًّا أن ينجرّ قائد السبسي إلى التلفيق للتغطية على فقدانه الذاكرة. وأريد هنا أن أساعده على مقاومة النسيان وأن أذكّره بأنّ لقائي به تمّ في شهر ماي، أي بعد إقالة الراجحي التي تمّت في مارس 2011 ومباشرة بعد محاولة رفع الحصانة عنه تسهيلاً لإجراءات تتبُّعه من طرف الجيش. لقد زرتك في مهمّة وساطة باعتباري ممثّلة للمجلس الأعلى للحريّات (أملك صفة للتحرّك يا سيّد جبالي!) قصد التوصّل إلى إيقاف التتبّع مقابل اعتذار علنيّ يقدّمه وزير الداخليّة السابق. وكان من شأن هذه التتبّعات لو تواصلت أن تضطرّنا نحن المدافعين عن حقوق الإنسان وكامل السلك القضائيّ إلى الدفاع عنه، مما قد يؤدّي إلى أزمة مفتوحة بين الحكومة والمجتمع المدنيّ. بدوتَ موتورًا يومَها وأنت تستعرض العبارات الحادّة التي تناولك بها، وهو أمر لم أصرّح به لأحد قبل اليوم لأنّ أخلاقي تمنعي من الكشف عن لحظات ضعف محاوِريّ، وفي وسع مستشارك السياسيّ الذي حضر اللقاء أن يقول من بكى يومها، وقد أثّرتَ فيّ حقًّا. عند خروجي من مكتبك صادفتُ العميد الكيلاني والأستاذ الطريفي اللذين جاءا في نفس مهمّة الوساطة. ورأى مسؤولكم للإعلام، المدعوّ السيناوي، أن يمرّر الخبر في شريط الانباء للوطنيّة مع اقتطاعي من الصور، عملاً بالتمييز الجنسيّ! أمّا الابتزاز المرتبط بالأمن العامّ الذي تزعم أنّي مارسته عليك فقد سبق أن أجبتك بخصوصه في الرسالة المفتوحة التي وجهتها إليك قبل نهاية عهدتك ، وها أنا أرى أنّك مازلت خاضعًا للمعلومات المضلّلة لبعض الأجهزة. وأمّا الأراجيف الرخيصة التي قد تُعرّض مصدرها إلى التتبّع القضائيّ والمتعلّقة بعلاقة مزعومة بين وبين الراجحي، فإنّي لن أعبأ بها. إنّها مجرّد اجترار بنفس العبارات ونفس الأسلوب للبروباغندا الهابطة التي برعت فيها أجهزة بن علي. والواضح من كلّ هذا انّ السيّد قائد السبسي نجح في إقناع الرأي العامّ بأنّ مكانه الطبيعيّ أقرب إلى حاشية وسيلة بورقيبة منه إلى أعلى منصب في الدولة. ولا يسعني في النهاية إلاّ التأكيد على أنّي شديدة الاقتناع بأنّ هذه المحاولات المتكرّرة للانحطاط بمستوى الجدل العامّ، لا غاية لها إلاّ التهرّب من الأسئلة المركزيّة التي تطرحها مرحلة التحوّل الديمقراطيّ، مثل محاسبة الماضي، وكشف الحقائق، وتأمين الأرشيف، ووضع حدّ للإفلات من العقاب، وتفكيك أجهزة الديكتاتوريّة، وضمان الحقّ في عدالة حقيقيّة، والانطلاق فعلاً في الإصلاحات التي طال انتظارها.