منجي المازني المناشدون اصطلاحا هم الذين ناشدوا ولي نعمتهم المخلوع زين العابدين بن علي للترشح لفترة رئاسية جديدة، بعد أن استنفد عدد الدورات الرئاسية المخولة له بحسب الدستور. وحيث أن "سيادته" حريص أشد الحرص على تطبيق القانون في دولة القانون والمؤسسات. وحيث أن"سيادته" انتخب في المرات السابقة بطريقة شفافة بنسبة 99 في المائة من طرف الشعب. وحيث أنه حييّ و"خجول" و "ولد عائلة" ويخاف الله فإنّ "سيادته" يأبى أن يفرض نفسه على الشعب بطريقة تعسفية غير ديمقراطية ولا دستورية أو دموية غير إنسانية. من هنا جاءت الحاجة الملحة للمناشدة والمناشدين. فهل يعقل أن يفرط الشعب الكريم في "سيادة الرئيس" الذي جرب الحكم لأكثر من عشرين سنة والذي تحققت في عهده معجزات اقتصادية فسار بالبلاد إلى بر الأمان والازدهار ؟ وهل يعقل أن نفرط في من له من التجربة والجاهزية للحكم لنرشح من تعوزهم التجربة الكافية ؟ لذلك فقد كانت الضرورة تقتضي تدخلا عاجلا من أهل الذكر من التجمعيين ومن طلائع المجتمع من أذيال السلطة لرفع الحرج عن "سيادة الرئيس" و"لتطيير الحشمة عنه" من أجل حثه على القبول بالترشح وثنيه عن اعتزال الحياة السياسية وهو في عمر الزهور لا سيما وأنه لم يأت إلى السلطة على ظهر دبابة ذات ليلة، هي ليلة السابع من نوفمبر1987. من هنا جاء دور المناشدين لحمل أمانة المناشدة. ومن هنا جاء اختصاص المناشدة. فاختصاص المناشدة ليس سهلا كما يذهب إلى ذلك ظن الكثير من الناس بل هو مجال بل علم معقد وشاق ولا بد أن يكون طالبو هذا العلم على درجة عالية من الذكاء والفطنة السياسية "يخطفها وهي طايرة". فالمناشدون لهم وظيفتان أساسيتان : الأولى : إقناع الشعب بأهمية الرئيس المتخلي وبدوره الريادي في دفع عجلة الاقتصاد، وبأن ما يقومون به ليس تزلفا للسيد الرئيس وإنما هو دعوة من أعماق ضمائرهم الحية لقول كلمة حق. إذ ليس من السهل إقناع شعب على بكرة أبيه بوجهة نظر وحيدة. والوظيفة الثانية هي إقناع "سيادة" الرئيس بالعدول عن مغادرة الحياة السياسية وذلك من أجل استكمال مسيرة النضال والبناء والإصلاح. وإذا كان"سيادة الرئيس لا يريد التعسّف على الدستور وعلى القانون والعرف ويستحي أن يعرض نفسه من جديد على من انتخبوه لأربع ولايات متتالية فعلى المناشدين تدارك الأمر والتدخل على جناح السرعة لدى سيادته لرفع الحرج و"لتطيير الحشمة عنه". وإن لزم الأمر تغيير القانون الانتخابي أو تنصيبه بدون انتخابات لأن الضرورات في الحالات القصوى تبيح المحظورات. وإن أبى الشعب ذلك فيمكن الالتجاء إلى فكرة حل الشعب وتغييره عوضا عن تغيير الرئيس لأن المثل يقول رجل كألف وألف كأفّ أو رجل كشعب وشعب كأفّ. فإن فرطنا في رئيسنا فكم يلزمنا من الوقت حتى نجد ظالتنا في رجل في مثل خبرته وحنكته السياسية وعبقريته. وكم يلزم من الوقت حتى يكتسب الرئيس الجديد المفترض - معاذ الله - الخبرة الكافية. وأما الشعب فأمره يسير . فإن استعصى الأمر على المناشدين، ولم يجدوا في هذا الشعب من يقدّر الأمر حق قدره ويكون في مستوى المسؤولية التاريخية الملقاة عليه، فيمكن عند ذلك التخلص منه بجرة قلم عفوا بعدة صواريخ أو بعدة براميل نفطية تنزل عليه من السماء فتمسحه من على وجه الأرض في لمح البصر. والبديل موجود ومتوفر بكثرة : الشعب الإيراني والشعب الروسي على الخط ويمكن أن تمتد القائمة إلى شعوب أخرى. فالشعوب أصبحت، في هذه الأيام، تباع وتشترى في سوق النخاسة العالمية وبأثمان بخسة. فكما ترون أيها الإخوة الكرام كم ينتظر المناشد من عمل ومن فطنة سياسية ومن - تخديم مخ- لكي يحافظ على كل الانجازات ولكي يثبّت - سيادة - الرئيس وأعضاده الميامين على رأس الدولة. وفي سبيل أن يغدو المناشدون من الصنف المتميّز النشيط والمبدع في مجال المناشدة لابدّ أن تتوفّر فيهم صفتان اثنتان : الصفة الأولى : القابلية للمناشدة أو القابلية للاستعمار كما يطلق عليهم المفكر الجزائري مالك ابن نبيّ. ومن لا تتوفّر فيه هذه الصفة فغير جدير به الالتحاق بهذا الاختصاص. وهنا لا بد للمسؤولين الماسكين بزمام الأمور أن يسعوا لإجراء عديد الاختبارات الكتابية والشفوية لانتداب أو لتزكيّة البعض من بين موظفي الإدارة التونسية للدخول إلى عالم المناشدة. والامتحان سهل جدّ. فعلى سبيل المثال يمكن أن يجمع المدير المسؤول الموظفين الراجعين له بالنظر ليخبرهم،زورا وبهتانا، أنّهم متهمون بالتقصير في إنجاز بعض الأعمال. بما يجعل من لا تتوفر فيهم صفة المناشدة يجادلونه بكل ما أوتوا من قوة فيما ذهب إليه. فيما يطمئن ويستكين الذين تتوفر فيهم هذه الصفة ويقولون له : يا سيادة المدير نحن فعلا مقصرون ومذنبون وسنتدارك الأمر في المرّة القادمة. بهكذا أسئلة وبهكذا استفزاز يمكن اكتشاف وفرز المناشدين والذين لهم القابلية للاستعمار والقابلية للمناشدة والقابلية للتذلل والتمسكن والقبول بالشتم والبخس. فكلنا يذكر ذلك الموقف المشرف لأردوغان في منتدى دافوس وانتفاضته وخروجه من القاعة احتجاجا على افتراءات بيريز على الفلسطينيين زورا وبهتانا وعلى عدم حيادية منشط اللقاء في حين بقي أمين عام جامعة الدول العربية متسمرا في مكانه بلا حراك وكأنه جسد لا روح فيه. الصفة الثانية : أن يكون ناشطا وحركيا في مجال المناشدة لكي يستطيع اجتياز كل محطات و مراحل المناشدة. فالمناشدة هي علم واختصاص تتوفر فيه كل الدّرجات المعرفية والعلمية : الإجازة والدراسات المعمقة والدكتوراه. فمناشدة - سيادة - الرئيس، ليست كأي مناشدة لأي مدير أو مدير عام أو وزير، فهي تتطلب أعلى درجات العلم والمعرفة بهذا الاختصاص وهي تتطلب الصبر والثبات وتسلق سلم المسؤوليات بنسق تدريجي. فيمكن للمناشد، بحنكته ومثابرته أن يدير مصلحة مناشدة ثم يرتقي إلى مرتبة مدير شؤون المناشدة ثم إلى رتبة مدير عام المناشدة والمناشدين. ويمكن بعد ذلك أن يظهر اسمه ضمن قائمة كبار المناشدين ،على غرار كبار الناخبين في أمريكا، على صفحات الجرائد وعلى شاشة قناة 7 وأخواتها من الرضاعة. ولعله من المفيد التأكيد على وجود علاقة عضوية بين الوظيفة المهنية ووظيفة المناشدة. وبصيغة أخرى هناك تلازم مسارات بين الاثنتين على غرار تلازم المسارات في الحوار الوطني. فحسب التجربة وفي أغلب الأحيان يتقلد المناشد مسؤولية إدارة شؤون المناشدة والمناشدين وعلى إثرها مباشرة يعين على رأس إدارة في صلب الوزارة أو المؤسسة التي يعمل صلبها - وحدة تجيب الأخرى - حتى ولو كان غير مؤهل لذلك لأن الدرجة المتعلقة بالمناشدة، في بلادنا وفي كل البلاد العربية، مقدمة على الدرجة العلمية. وكتطبيق عملي لهذه النظرية ترسل ملفات المعنيين بالترقية إلى وزارة الداخلية للتثبت والتأكد من الأمر فربما يتسرب الخطأ إلى بعض الملفات ؟ وللمناشد عادة وظيفتان أو مهمتان : وظيفة مهنية ووظيفة اجتماعية ضمنية. فالمهمات والمأموريات لإنجاز وتفقد الأعمال في داخل الولايات والإدارات الجهوية تتعدد وتكثر في مواسم جني الزيتون والتمور وذلك من أجل التسوق لمجموعة المناشدين والحصول على الزيوت والتمور الرفيعة بأقل الأثمان والتكاليف. فكما نلاحظ، يا سادتي الكرام، يساهم المناشد في تحريك عجلة الاقتصاد وفي دعم سياسة الحكومة فيما يسمى من المنتج إلى المستهلك. ولكن من يصطادون في الماء العكر سيقولون أن معظم هذه الأعمال والمهمات هي استنزاف لميزانية الدولة باعتبار أن البضاعة المقتناة هي مدعومة من مال المجموعة الوطنية- منح ومصاريف تنقل- ونجيبهم على الفور بأن "سيادة" رئيس الجمهورية بنى سياسته على الدّعم والدّعم اللاّمتناهي لكل شرائح المجتمع. فهو يدعم المواد الأساسية ويدعم المحروقات ويدعم الفنانين والرياضيين، بل إنّه يشجع ويدعم كل عمل له صلة بدعم القدرة الشرائية للمواطن. فكما نرى فكرت دولة سيادة الرئيس في أمر المناشدين وأولتهم العناية اللائقة بهم وأحاطتهم بكل عطفها وأسّست لهم قانونا خاصا بهم، على غرار قانون الوظيفة العمومية، يحفل بالحوافز المادية والمعنوية. ويمكن أن نذكر من الحوافز المعنوية قانون حق النقض : الفيتو. فقبل حوالي خمسة عشر عاما توجهت إلى مكتب رئيس ديوان السيد الوزير الذي يبعد عن مكتبي حوالي ثلاثين مترا وخاطبته بالقول : لماذا لا تنتهجون العدل والإنصاف فتعاملون الناس بالسّويّة ؟ فأنا قد انتدبت في العمل منذ أكثر من عشر سنوات ولم أتحصل على وظيفة ولا على سيارة إدارية كبقية زملائي الذين انتدبوا بعدي بخمس أو بعشر سنوات ؟ فأجابني على الفور قائلا : هذه الأمور ليست حقا مكتسبا وإنما هي امتياز نمتع به من نشاء. ولم تمر سوى بضعة أشهر حتّى علمت أن أحد المناشدين استعمل في شأني حق النقض. وأحمد الله أنّ رئيس الديوان لم يستعمل في شأني أحد فصول المناشدة وإلاّ لتم تغييبي في السجن إلى حين انطلاق ثورة الربيع العربي. حاليا وبالنسبة للمناشدين الصغار مازال المشهد على حاله. وربما نتطرق إليه ببعض التفصيل في مقال آخر. أما بالنسبة للمناشدين الكبار فمطلوب من الشعب ومن عديد مؤسسات المجتمع المدني أن يؤازروهم في مصابهم الجلل. فقد أصبحوا أيتاما بعد أن رحل عنهم أبوهم "الحنين" ولم يعثروا بعد على أب جديد رغم كل محاولات البحث الجادة طوال ثلاث سنوات من المرحلة الانتقالية. ولذلك أطلب مرة أخرى بكل لطف من الشعب ومن جميع شرائح المجتمع أن يصبروا عليهم ويقدروا حالتهم النفسية ولا يحاسبوهم على تصرفاتهم الرعناء وعلى تجنيهم على حكومة الترويكا صباحا مساءا واتهامهم لها بالفشل في كل أعمالها بما أدّى إلى استقالتها لتجنيب البلاد فتنة لا يعلمها إلا الله. فبارك الله في الحكومة المستقيلة وبارك الله في الترويكا وبارك الله في كل من مسح على رأس يتيم من يتامى المخلوع زين العابدين بن علي. ورزق أسرة الفقيد جميل الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون. من قلب الحدث ومن عمق الإدارة التونسية عاصمة المناشدة والمناشدين ومن مركز اكتشاف وصناعة ورسكلة المواهب الناشئة في فنّ المناشدة حدّثكم مراسلكم شاهد عيان.