بقلم: شكري بن عيسى (*) جلسة افتتاحية استثنائية بكل المقاييس ما تابعه تحت قبة البرلمان التونسيون طوال هذا اليوم. استثنائية بمشهدها العام المركّب وتركيبتها الهجينة وأطوارها المذهلة.. واذا كان نقل السلطة من "نواب التاسيسي" الى "نواب الشعب" تم بشكل حضاري سلس، فان أمر انتخاب رئيس المجلس النيابي مثل اشكالا عميقا وضع الكل في مأزق كبير خاصة وان احترام الدستور بات هذه الاسابيع سيما هذا اليوم في هامش اعتبارات الحزب الفائز في التشريعية.. ايضا المشهد الهجين الذي قطع بشكل كبير مع المشهد الثوري وتقدّم الصورة لوجوه لا علاقة لها بالثورة بل ان الكثيرين منهم كانوا في علاقة ما بالمنظومة النوفمبرية، وحتى الخطاب فلم يشذ عن هذا الاطار العام، والمناضل علي بن سالم الذي عانى الويلات وكابد كل صنوف القمع والتعذيب والاضطهاد في العهد البورقيبي والنوفمبري فقد تموقع في المركز الذي اطلق على ما انجزه الشباب، الذي لولاه لما وطئت قدماه قبة باردو ولما صعد الى موقع رئاسة الجلسة الافتتاحية، كلمة "ما يسمى بالثورة"، ولا غرابة ف"مفارقة ستوكهولم" اصبحت مرضا شديد الانتشار حيث تُدافع الضحية عن جلادها. جلسة افتتاحية "ممتازة" في تسميتها، ولكنها "ممتازة" في عكسها واقع الحياة السياسية الهجين والمسار الثوري المتعثر الذي آلت اليه البلاد، و"هيبة الدولة" و"علوية القانون" الذي لطالما شنف بهم آذاننا وريث التجمع، ظهروا جليا في آخر الاعتبارات. "رئيس جلسة" مرتبك تحت نظرات واشارات وحصار اعضاء حزبه وحتى التدخلات السافرة لكسيلة، المسكين استغلوا حالته الصحية والذهنية ليوجهوه كما شاؤوا، وعندما يتفطن يرد بتلقائية مظهرا شخصيته وحياده المهدور، ايضا "غياب" او "تغييب" لرئيس الجمهورية أَوَّلَه كل بطريقته واستمات في توظيفه في المعركة الرئاسية، واُخْتُتِمَت الاوضاع بانتحال احد الاشخاص لشخصية النائب عن المؤتمر مبروك الحريزي، فسره كل على هواه، والقضية لدى الامن والاكيد ان القضاء سيحسمها عما قريب. والحقيقة ان حالة سي علي، وتأثره بالبكاء، التي اخذت كل الاضواء سلبا وايجابا، اخفت حقيقة عدة امور مثيرة للاحباط ليس اقلها عودة المحاصصة الحزبية من الباب الكبير ولكن وهو الاخطر الاستهانة بالنص الدستوري في خروق صارت اعتيادية قبل افتتاح عمل المجلس وتأكدت اليوم بتبريرات مختلفة. الكل اقسم اليوم على القرآن (ولو ان الصور اظهرت عدة وجوه ... لم تضع يدها عليه عند اداء القسم) بان "يخدم الوطن باخلاص" و"ان يلتزم بالولاء التام لتونس" ولكن خاصة "ان يلتزم باحكام الدستور"، ولكن الاغلبية اندفعت في البحث عن المبررات والمسوّغات التي تمكنها من عدم حسم مسألة انتخاب رئيس المجلس في "أول جلسة" وفقا للفصل 59 من الدستور، وبعد التأويل الاول للفصل 89 من "الحوار الوطني" المبني على الاستهانة بالنص الدستوري سقطنا من جديد في البحث عن ما يمكن ان يُخضع الاحكام الدستورية للمصالح الحزبية. والتحيّل على الفصل 59 صار جليّا خاصة وان الاتجاهات اتضحت بشكل كبير، وبان انحصار النقاش بين النهضة والنداء للاتفاق حول رئاسة المجلس ونائبيه، وتم بذلك تسبيق هذا الاعتبار على اعتبار مقتضيات الفصل 59 ولكن ايضا اعتبار مقتضيات الفصل 66 الذي يضع اجل نهائي (31 ديسمبر) للمصادقة على قانون المالية للشروع في تنفيذ النفقات واستخلاص الموارد بما فيها القروض، ويحدد اجل اول ( 10 ديسمبر) كأجل اساسي للمصادقة على قانون المالية. والجميع يعلم ان عدم المصادقة على قانون المالية في الاجال سيترتب عنه انعكاسات سيئة جدا على اقتصادنا والاقتراض والاستثمار والتشغيل والترقيم السيادي، وعلى الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للبلد، وايضا وهو الاخطر الاستقرار الامني، ورفع عنوان "التوافق" و"المصلحة الوطنية" لعدم حسم مسألة رئاسة المجلس في 2 ديسمبر والانتقال بسرعة للاستجابة لاستحقاقات قانون المالية وغيره ظهرت متهافته ومتهالكه بسرعة. الاعتبارات الحزبية باتت واضحة في تأويل الدستور، والنهضة تسعى الى امكانية الظفر برئاسة المجلس لأحد مرشحيها ديلو او مورو، والجبهة بدورها تلهث وراء الفوز بنيابة رئيس المجلس للنائبة مباركة البراهمي، في حين يبدو التفاهم محسوما مع النداء في خصوص الوطني الحر وافاق، اذ يبدو ان افاق سيكون له وزن في الحكومة اما الوطني الحر فقد تم الاتفاق حول نيابة رئاسة المجلس لفائدته، والاحزاب المتنافرة صارت اليوم متقاربة والاشارات والهمسات صارت متكررة ووصلت الى العناق والقبلات من ناحية ديلو ومورو مع السبسي لنيل الرضى، في حين بان الشرخ مع حليف الامس في "الخصة" و"جبهة الانقاذ" الجبهة الشعبية الذي يبدو ان النداء جافاها، ولا نعلم كيف حسب المسألة الرئاسية في الصدد!؟ البحيري يبدو انه حرك الحمائم (ديلو ومورو..) من اجل التقارب مع النداء للانتقام سياسيا من رفض المرزوقي لتسميته في رئاسة الحكومة بعد استقالة حكومة الجبالي.. الاعتبارات القانونية الدستورية اتضح الاستهانة بها الى حد الاستهتار، والامر ابتدأ بطلب "تأجيل" انتخاب رئيس المجلس من ممثل نداء تونس الى اعطاء التعليمات بصلافة من كسيلة لرئيس الجلسة وصولا الى تسميات اخرى "رفع" الجلسة او "تعليقها" وتركها "مفتوحة" الى غيرها من التسميات، المهم تحقيق المبتغى، وكان تمرير قرار "التأجيل" و"تركيبة لجنة الفرز" قبل التفطن الى اعتماد قاعدة "التصويت" امرا غريبا لم نر له سابقة سوى في برلمانات الدول المتخلفة. والاصل ان رئاسة "الاكبر سنا" هو حالة استثنائية لا يمكن بحال التوسع في اسناد الصلاحيات والسلطات لمن يشغلها، وحق التأويل خاصة وان النص الدستوري تظل قاعدة تفسيره عدم التوسع. الكثير يتخوّف اليوم من استمرار الخروقات الدستورية التي انطلقت بقوة، والخوف يبدو واسعا في خصوص عدم حسم رئاسة المجلس يوم الخميس، خاصة وان المعركة الرئاسية القت بظلالها الكثيفة على المجلس النيابي، وتقهقر مرشح النداء بعد الاخطاء التي ارتكبها الاسبوع المنقضي جعله يبحث عن تكتيكات جديدة لقلب الاوضاع، في مقابل تنازلات، وكان ان وضع في النهاية المجلس النيابي رهينة قد لا يفك اسره قبل تحقيق المبتغى الذي يبدو صعبا ومعقدا الى حد يجعل كل شيء في "وحل" الضبابية..