بعد احراق الزوايا والمقامات وخاصة مقام "سيدي ابي سعيد الباجي" والتفجيرات، والاعتداءات على الامنيين والعسكريين، واغتيال السياسيين ... لإجبار الحكومة على الرحيل عبر احداث الفراغ الأمني، يبدو ان الثورة المضادة دخلت مرحلة جديدة، وصعدت من عملياتها بشكل نوعي، وتحولت الى التفجيرات والاحزمة الناسفة، ليس فقط لاسقاط الحكومة بل بهدف فرض مرشحها لقيادة المرحلة القادمة. ما جرى يوم اول امس في سوسة والمنستير، ليس سوى استكمال لمخطط بدا منذ انتخابات 23 اكتوبر 2011، بهدف اسقاط الحكومة، واخراج النهضة تحديدا من الحكم. واستعملت في هذا الاطار وسائل الاعلام، لتشويه وشيطنة حركة النهضة، وتصوير الوضع بألوان قاتمة، في مقابل تصوير الماضي كجنة. وتم في هذا الصدد افتعال العديد من القضايا وتضخيم بعضها وتهويل البعض الاخر، من بينها افتعال قضية امارة سجنان الاسلامية، وقبلها بن قردان، ومن بعدها قضية المنقبات بكلية منوبة، والتي انتهت بما بات يعرف بقضية العلم، التي كادت تتحول بفعل وسائل الاعلام التي كانت تلعب دور حمالة الحطب، الى فتنة لا تحمد عقباها. الاضرابات والاعتصامات وقطع الطرقات، والحركة الاحتجاجية ضد السلطة منذ الانتخابات الى يومنا هذا رغم رعاية الاتحاد للحوار، ورغم اقرار الجميع بان الاقتصاد الوطني لم يعد يحتمل المزيد، كانت رافدا مهما لهذا السعي التخريبي للانتقال الديمقراطي وتعجيز الحكومة وقد شهد شاهد من أهلها، حين بدأ الحديث عن "الهدنة الاجتماعية" بعد اختيار الحكومة الجديدة، اعترافا بأننا كنا نعيش فصلا من فصول "وضع العصا في العجلة". فشل المناورات الخسيسة والدنيئة في اسقاط الحكومة، دفع الانقلابين الى خطوة اكثر خطورة، ودخلوا مرحلة الاغتيالات، فتم اغتيال بلعيد، ومن بعده البراهمي، وحتى لا تخرج النهضة سالمة من هذه العملية، وفي ضوء المعطيات التي كشفت عن بداية مرور الازمة دون اسقاط الحكومة، زاد الانقلابيون في اللعب على الدم من جديد، فكانت مجزرة الشعانبي، التي تلتها سلسلة من الاعلانات الكاذبة عن وجود قنابل، وافتعال تفجيرات، تبين فيما بعد ان احداها من تدبير احد رجال الامن. الحصيلة لكل هذا ان النهضة قبلت بالحوار مخرجا للازمة السياسية التي تعيشها البلاد، وان كنا على يقين ان هذه الازمة مفتعلة، مثل عديد القضايا الاخرى في بلادنا، المهم ان النهضة قررت القبول بمبادرة الاتحاد، والجلوس على طاولة المفاوضات، مثلها في ذلك مثل بقية مكونات الساحةالسياسية في بلادنا، ولكن، لان البعض لم يكن يريد الحوار اصلا، ويخشى من نتائجه وخاصة منها، استكمال مسار الانتقال الديمقراطي، واختيار هيئة للانتخابات، وتعيين موعد محدد لاجراء هذه الانتخابات، وفي محاولة شريرة لافشال الحوار، او على الاقل، فرض شروطه فيه، مر المجرمون الى المستوى الاكثر دناءة في استهداف الوطن، من اجل اسقاط الحكومة، عبر عمليات انتحارية غريبة لم نشهد لها مثيلا في تاريخ العمليات الإرهابية التي شهدناها عبر العالم. الهدف المباشر من تفجير الارهابي لنفسه او تفجيره عن بعد، وفق بعض الروايات، هو طبعا ضرب عمود من اعمدة القليلة التي ظلت صامدة لاقتصادنا الوطني، وهو السياحة، وفي نفس الوقت، اثارة الراي العام الدولي وخاصة الاوروبي ضد بلادنا، ونحن نعرف حساسية جيراننا في الضفة الشمالية للعمليات الانتحارية، خاصة ان العملية تزامنت مع زيارة وفد اوروبي رفيع المستوى لبلادنا هدفها الرئيسي التاكيد على صحة المسار الذي نسير فيه، اولا، والتاكيد ثانيا على استحالة تكرار السناريو المصري في بلادنا. وكما قلنا اكثر من مرة فاننا ازاء تقاطع مصالح بين الارهاب والانقلاب وان العنف الجهادي بات منذ فترة جزء من ألغام السياسة وفخاخها، وصراعاتها، لإحراج النهضة شعبيا، فالعملية الانتحارية في سوسة يجب ان تقرأ في اكثر من مستوى، والتركيز أساسا على انها لم تكن موجهة الى الداخل فقط مثل عمليات قبلاط التي استهدفت الحط من معنويات الامنيين او احداث الشعانبي التي استهدفت العسكريين. اليوم هناك من يريد اشعار الغربيين انهم مهددون، واعطاء ذريعة للآلة الاعلامية الغربية كي تستكمل هجمتها على بلادنا، وهو ما شاهدناه اثر عملية الانفجار بقليل. السؤال هو لماذا؟ وما علاقته بالتزامن بين المحاولة الإجرامية ووصول الحوار حول المرشح لرئاسة الحكومة الى مراحله الاخيرة، وانطلاق النهضة بحظوظ وافرة لحصد ثمار موافقتها على خطة الرباعية رغم المآخذ العديدة عليها؟ ألا تُذكّر العمليات الإرهابية الفاشلة، بإحراق مقام سيدي ابي سعيد في نفس توقيت محاولة إيقاف كمال اللطيف من طرف الشرطة؟ الضغط على كل اصدقائنا كي يرفعوا ايدهم عن تجربة الانتقال الديمقراطي، وبث الرعب في النفوس، وتهديد النهضة بحمام دم ان لم تستسلم لإرادة الانقلابيين، هي الحقيقة التي تلوح لنا من تحت أشلاء الإرهابي القتيل. نعم هي الحقيقة التي تعيدنا الى موجة التخويف بالاغتيال الثالث لإجبار الحكومة على الاستقالة طيلة شهري اوت وسبتمبر. والان لم يعد التهديد هدفه خروج النهضة من الحكم بل تسليمه رسميا لكمال اللطيف، وحكومة الظل. الارهاب والانقلاب، باتا اليوم وجهان لعملة واحدة، وهناك اليوم تقاطع للاهداف بين الطرفين المجموعات المتطرفة، تريد ان تنتقم من الحكومة لانها صنفتها ضمن خانة الارهاب، والانقلابيون يستغلون الارهابيين، عبر الاختراق أو تكوين خلايا ارهابية " موازية" لفرض اجندتهم على بلادنا. .. تونس اليوم تعيش على إيقاع حوار محفوف بكثير من المخاوف، والمحاذير، والحسابات المعقدة. والمهم ان تدرك حكومة الظل ان رهانها على مصطفى كمال النابلي، لن يمر مهما كان الثمن. والمهم ان يعرف النابلي الذي حظي بالتبجيل من حكومة الثورة، رغم خلافه مع المؤتمر والرئيس المرزوقي، انه يخون كفاءته الاقتصادية ان رضي بان يكون مجرد "بيدق"، في يد كمال اللطيف وان تصور انه سيحكم تونس بالوكالة وتحت ضغط الارهاب الجبان. اللعب اصبح على المكشوف، يقتلون لتسقط الحكومة، ويرسلون الانتحاريين اليوم لاستعادة حكم، تصور اللطيف انه عاد اليه يوم لقائه بالمخلوع في "قاراج" فيلا ابنته سيرين. ولكن هيهات يا سي كمال، فان فشلت الحكومة في إيقافك عند حدك فالشعب لن يغفر لك تآمرك مع المخلوع لإجهاض الثورة، ومحاولاتك إفشالها بعد هروبه، وقبلهما دورك القبيح في هندسة الدكتاتورية، وومسؤوليتك عن محرقة التسعينات. ملف ثقيل، فما رأي الرباعية التي تبدو مصرة على نفس نهج الحياد، الذي سارت عليه منذ بداية الأزمة؟