في ذكرى استشهاد المناضل البطل فرحات حشّاد صاحب المقولة الشهيرة "أحبّك يا شعب" التي أثبت التاريخ صدقه فيها، تحوّل الاحتفال في منعرج خطير للأحداث على مستوى المنظمة الشغّيلة إلى معركة سياسيّة وقتاليّة كانت سابقة في حد ذاتها منذ الثورة وإلى اليوم. مجموعات نقابيّة قاعديّة ومحتجّون من أطياف وحساسيات عديدة تجمعوا في ساحة محمد علي من أجل المطالبة في ذكرى اغتيال أحد مؤسسي وأبرز رموز المنظمة الشغليّة، بالتطهير، تطهير اتحاد الشغل ممّن وصفوهم بالمتسيّسين الذين انحرفوا بالعمل النقابي إلى ممارسة سياسيّة خارج النظم القانونيّة المتعارف عليها.. ظهر ذلك من خلال الشعارات التي ملأت صداها بطحاء محمد علي وشارع المنجي سليم، منها "الشعب يريد تطهير الاتحاد" و"الاتحاد مستقّل والشرعيّة هي الكل" وغيرها من الشعارات التي تطورت فيما بعد بتطوّر الأحداث لتصبح من قبيل "يا حشّاد يا حشّاد الاتحاد حرق البلاد"... ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا في هذا السياق بالتحديد، هو لماذا هذا الاحتجاج المفاجئ ضدّ اتحاد الشُغل في هذا التوقيت بالذات؟ وماهي الرسائل التي قد تبعث بها أحداث أوّل أمس وتبعاتها للمسؤولين النقابيين والسياسيين على حدّ سواء؟ إذا نظرنا للأمور من زاوية بعيدة فإنّنا نتذكّر جيّدا أنّ أوّل خُطوة أقدم عليها الوزير الأول السابق بعد الثورة الباجي قائد السبسي، هي زيارة الاتحاد والاجتماع بأمينه العام حينها عبد السلام جراد الذي يبدو أنه امتلك حينها من الحكمة والرؤية ما جعله يُحسن إدارة منظمته في تلك المرحلة الانتقاليّة إلى حين تقاعده منها في مؤتمر طبرقة الأخير وتسليمه المشعل النقابي للأمين العام الحالي حسين العبّاسي. ولم تكن تلك الخطوة مجانيّة بل تمّ بموجبها التوافق على تسبيق مصلحة الوطن عن كلّ ما يمكن أن يعطّل مسار المرحلة الانتقاليّة في البلاد. أمّا بعد الانتخابات الأخيرة، وبعد تنصيب الهيئة التنفيذيّة الجديدة للاتحاد، فقد سارعت المنظمة الشغيلة التي يُقال أنّ أغلب أعضائها المركزيين والجهويين منتمين لأحزاب يساريّة راديكاليّة متطرفة، إلى التكشير عن أنيابها ومناصبة العداء للتشكيل السياسي الجديد الحاكم. حتى أصبحت الاعتصامات خبزا يوميّا تعطّلت بسببها عدّة مصالح وأقفلت مصانع وأطرد شغّالون؟؟ والغريب في الأمر أنّ كلّ هذه الممارسات تقع بتبن ومباركة الاتحاد وإن كان حق الإضراب والعمل النقابي مكفولا إلاّ أنّ المصالح العامة أولى لاسيما في الفترة الحاليّة. ورغم استجابة الحكومة لمطالب الزيادة في الأجور وبنسب مرتفعة مقارنة بوضع البلاد الحسّاس، ورغم موافقة الحكومة على الزيادات المشطّة التي التزم بها الوزير السابق تجاه الوظيفة العموميّة كلّفت ميزانية البلاد عشرات المليارات الشهرية الإضافيّة، إلاّ أنّ المنظمة الشغيلة لم تكتف بتنازلات الحكومة بل تمادت أكثر في تبنيها أحيانا لمطالب ثانوية هامشيّة مقابل تهميش العمل النقابي والروح الوطنيّة الفعليّة التي كان يتمتع بها نقابيو العهد الأوّل على غرار بن عاشور والحامي وحشّاد وغيرهم من الوطنيين الذين حفظ لهم التاريخ مكانهم عند الشعب. فقد وصل بالاتحاد الأمر إلى تبني نقابة للعُمد الذين يعرف الشعب التونسي تاريخهم في الوشاية وشهادة الزور ضدّ المناضلين من السياسيين والحقوقيين. إلاّ أن اللافت للأمر أكثر هو التداخل الكبير بين السياسي والنقابي في الممارسة اليوميّة للاتحاد تحت عنوان المطالب الاجتماعيّة والتشغيل وغيرها من الملفات.. انطلقت من ساحة محمد علي منذ ما بعد الانتخابات عشرات المسيرات ضدّ الحكومة معظم المشاركين فيها بل ومنظميها من تيّارات سياسيّة معروفة لدى الجميع، وصلت إلى حدّ المطالبة بإسقاط النظام؟؟ فرفعت في ساحة محمد علي في فترة انتقالية في البلاد من المفروض أن تجتمع فيها كلّ الحساسيات لخدمة الصالح العام لا غير، شعارات من قبيل "الشعب يريد إسقاط النظام" و" وكلاء الاستعمار نهضاوي رجعي سمسار".. وغيرها من الشعارات السياسيّة التي لا تمت بأية صلة للعمل النقابي أو المطالب الاجتماعيّة. والغريب واللافت أنّ الاتحاد يلتزم الصمت إزاء هذه الشعارات التي يُنادى بها من ساحاته وتحت لوائه ولم يفعل كما فعل إبّان حكم المخلوع عندما سارع أعضاء هيئته التنفيذية إلى استنكار بعض الشعارات التي رُفعت ضدّ "الطرابلسيّة" في بطحائه أيّام الثورة؟؟ كلّ هذه الأسباب وغيرها على غرار تورط نقابي في تسريب امتحان الباكالوريا وآخر في الاعتداء على قاصرات من تلامذته ودعوة آخر إلى الانفصال عن البلاد وتصفية الإسلاميين.. وخاصة ما حصل مؤخرا في سليانة حيث تسبب الاتحاد الجهوي في نشوب صدامات ومواجهات أليمة مع شباب المنطقة عندما نادى بعزل الوالي واستعمل بعض التعلات في ذلك بذريعة التنمية الجهويّة وأوضاع التشغيل وغيرها من أقنعة العمل اليومي لبعض النقابيين المسيّسين، كل هذه الأسباب ولّدت حالة من الاحتقان الشعبي ضدّ المنظمة الشغيلة التي باتت سيّئاتها لا تُحصى منذ تولي الترويكا الحكم قبل نحو عام من اليوم. ولعلّ ذلك ما يفسّر بعض الذي حصل أوّل أمس ببطحاء الاتحاد الذي من المفترض أن يكون إنذارا للجميع من أجل العمل على مزيد التهدئة وتجاوز الخلافات وتسبيق مصلحة البلاد بعيدا عن المزايدات والانسياق الأيديولوجي الأعمى الذي لن يكون غير معول هدم للدولة والثورة معا ويبقى الشعب فقط من يدفع الثمن. فهل سيعي الاتحاد الذي ساهمت قواعده أيام المخلوع في تأجيج ثورة الشعب أنه لا ينبغي عليه أن ينتكس ليتبنى الثورة المضادّة في انسياق واضح لإيديولوجيات بعض منتسبيه الفكرية والسياسيّة ومصالحهم الضيّقة؟؟