في السّابق، كان رئيس جمعية رياضيّة ما، يستمدّ نفوذه من نفوذ السّلطة السياسية والاقتصادية والدينية، والرغبة في رئاسة جمعيّة »ميلانو« أو »أولمبيك مرسيليا« كانت محدودة جدا، أمّا الآن فإنّ هذه الرغبة لا حدود لها، فأدنى مسؤول في جمعية يملك، اجتماعيا، وزنا أكثر من وزن السّلط العليا، وقدرته على تعبئة الجماهير تفوق أيّ قدرة أخرى. وكلّ ناد يجمع في صفوفه الطبقات الاجتماعية، ويحدّد لكلّ منها دورها: الرئاسة تُبرمج، والجماهير البورجوازية الصغيرة تساند، والقادمون من الضواحي يعتدون، بل إنّ بعض مسيّري الفرق يموّلون جماعات العنف ويدفعونها لممارسته. يقول أحد علماء الأناسة الأنتروبولوجيا إن المسؤولين السياسيين يديرون ما يقرّره آخرون: رئيس الفريق يعرف النظام السّرّي للفوضى وإرادة الجماهير الحذرة، فهل يمكننا القول إن كرة القدم تحتل الموقع الرمزي الذي جعلته السياسة والديانات الكبرى شاغرا؟ إننا نعيش، ما يسمّيه جون بودريّار »انبثاث الظاهرة »Une métastase de phénomène«. وعن الممارسات الهمجيّة في كرة القدم ظهرت وفرة أدبيّة غير مفيدة في الأغلب ، وعلى سبيل الذكر يتردّد إسم »بيل بيدفورد« الكاتب الامريكي صاحب كتاب »مع الهمجيين« الذي يتحدث فيه عن تحوّله إلى مشجّع متعصّب (هوليغانز)، وانخراطه في عصابة مشجعين مفرطي العنف، منتهيا بالافتنان بعنف رفاقه في مجموعته. لقد كان »بيدفورد« ضحيّة أعراض مرض البحث في »جاذبيّة الهمجيّة الرمزية« شأنه شأن »أرنست همنغواي« الذي كان يشكو من المرض ذاته، حين انساق إلى سباقات الثيران والحروب الأهليّة والثّورات وصيد الحيوانات المتوحشة. وهناك أيضا أعمال »جون كلارك« و»إيان تايلور«، وهذا الاخير كان يرى منذ 1971 أن العنف هو سلوك الشباب المهمّش الذي تصدّى لتبرجز المشجعين الجدد المتهمين بإخراج هذه اللعبة من جذورها الشعبية. و»تايلور« و»كلارك« من الاوائل الذين أشاروا الى أنّ الهيجان في الملاعب لم يكن فعلا لا إراديا، ويتعلق الأمر هنا بظاهرة عنف لا تملك الدولة احتكار إدارته. فهل اخترعت هذه الجماهير في الملاعب طريقة أكثر جاذبيّة توحدهم دون تلك التي تملكها الاديان أو الاحزاب السياسية؟ وانطلاقا من يقينيّة أنّ جميع مشجعي فريق ما، وبمعزل عن وضعهم الاجتماعي، يؤلفون إثنيّة فريدة، ويرون في »المشجّع المتعصّب« شراسة ورقة الذّئاب: ضراوة ضد الآخرين، ولطف استثنائي تجاه أعضاء المجموعة. وفي لحظة »التفكير الأوحد« يُحدث هذا العنف رنينًا رائعا في أسْماع البعض وذلك لإدراكهم إفلاس النّظرية اللاهوتية للأمن. والمواساة الوحيدة في هذا العالم المشوّش، هل توجد في هذا الدين اللائكيّ الجديد؟ في الملعب / الكاتدرائية أو في النادي / الحزب؟ لكنّ هذه الوثنية الحديثة تتطلّب أن يملك لاعبو كرة القدم أبعاد البطل الملحميّ والغنائي، في حين أننا نعيش عصرا بلا أبطال، وليس له من الملحمي والغنائيّ شيء. تغنّى الأدب بلعبة كرة القدم، وشغف الشعراء المعاصرون بهذه الرياضة، منجذبين، بجمالية المنافسة ومهارة الرياضيين السحرية فقد كتب »رفائيل ألبرتي«، الشاعر الاسباني الكبير وصديق »غارسيا لوركا« في عشرينات القرن: نشيد إلى »بلاتكو«، حارس مرمى برشلونة، وألّف الموسيقار البرازيلي الكبير »فينيسيوس دو مورايس«، سامبا إكراما للاّعب الشهير »غارنيشا«. لكنّ أغلب المثقفين، في المقابل، أداروا ظهورهم لكرة القدم، وأبدوا لا مبالاتهم بها، وبطريقة مرموزة، وصفوا هيمنة كرة القدم وحضورها الكلّي، كمؤشّر ينذر بخطر تهميش حركات العصيان والاحتجاج، بل وحاول هؤلاء تصنيف كرة القدم بين »اليسار« و»اليمين«، وهكذا يؤكد »جورج فالدانو« أن كرة القدم المبدعة تنتمى الى اليسار، أما كرة القدم العنيفة والفظّة فتنتسب الى اليمين رافضا اعتبار اللعبة مجرد »دين لائكي«. لكن، كيف يمكن أن نتخيّل دينًا ولو لائكيّا دون إلاه؟ إنّ صناعة كرة القدم في حاجة دائما الى آلهة (أرباب) لتتّطور وعلى كلّ صناعة أن تجدّد أساطيرها، اختارت الفيفا اللاّعب »رونالدو« وريثا مقدّسا »لمارادونا«، ألم يصرح »جوها فلانج«: »ينتمي »رونالدو« إلى تراث كرة القدم العالمية، ويجب علينا جميعا حمايته«؟ ليتربّع اللاعب »دون كوكايين« على عرش هذا الدين الجديد. وفي نهاية هذه الألفيّة، أصبحت كرة القدم الموصوفة ب »أفيون الشعب« زمن الديكتاتوريات، المخدّر القاسي للديمقراطيات، و»رونالدو« أسطورة صنعتها »الفيفا« لتجعلنا نعتقد في دين كرة القدم، لكن لادين دون إلاه، وسيظلّ مكان إلاه كرة القدم شاغرا منذ أن انتهى »مارادونا« في تدمير ذاتيّ. الإحالة: مجلّة Manière de voir العدد: 39، / ماي جوان 1998 مانويل فاسكيز مونتلبان: كتاب إسباني، من مؤلفاته: ❊ أنا، فرانكو، باريس 1996 ❊ الخانق (l'Etrangleur) باريس 1997.