هذا فجر آخر لا مفرّ منه يأتي بالمرض والوهن والخوف.. كرهت فتح عيني على لون الصّباح، كرهت هذه العادة المقيتة.. أعرف تماما ماذا سيحدث في هذا اليوم الجديد يبدأ يومي بسماع خطبة أمّي، خطبة يمتزج فيها النّصح باللّوم والتقريع.. أصدقائي، أقاربي وعدوني خيرا، أصبحوا يتملّصون منّي، يفرّون كلّ بطريقته الخاصة كأنّي مرض معد.. أبدا رحلة يوم كامل، سفر داخل جحيم البحث، بلا حماس، بلا لذّة، بلا جدوى، نفس الإجابات تخرج من أفواه متشابهة. وقد ألعن نفسي يوما كاملا وأنا بقاعة الإنتظار، أهيّئ الكلام المختصر والمفيد دون أن أقابل السيد المسؤول.. لعنة اللّّه على هذا الوجه أمازال فيه قطرة ماء وحيدة لبداية يوم جديد ولمس منفذ آخر لرحلة أخرى مع خداع وتضليل النفس.. آه! عجبي من الحياة كيف تعطينا ظهرها فتبدو غريبة عنّا ونبدو غرباء عن ذواتنا.. أعذر أمّي أحيانا، فأنا لم أعد أطيق نفسي فكيف تتحمّلني أمّي التي تشتغل منظفة في أحد المستشفيات بأجر زهيد رغم أنّها تقضي اليوم كلّه في العمل.. لم أكن أنظر الى نفسي على أنّي تافه لكن الذي حدث قلب موازين الرؤية عندي: فأنا انسان عادي جدّا، أو هكذا أرى نفسي على الأقل، واحد من البسطاء الذين تعجّ بهم قريتنا البائسة. حصلت على شهادتي الجامعيّة بعد نضال مرير وتضحيات جسيمة من أمّي.. لكن تبيّن لي بعد ذلك أنّ شهادتي وجدها غير كافية وأنّي ان كنت راغبا في تحصيل شغل فلابدّ من أشياء أخرى ضرورية، لم أكن أعلم أنّ الوظائف تباع وتشترى وأنّ الناس يكون لهم من النفوذ بقدر قربهم من أصحاب الشأن الغامضين.. في الأخير حصلت على عمل بالمطار... قلت لنفسي الآن أدخل الحياة من بابها الحقيقي، الآن أودّع زمنا وأطرق باب زمن آخر.. لم يكن لي اهتمام بالسياسة لا أحبّها، أو هكذا خيّل إليّ.. لكن الذي حدث لم يكن يحتاج الى عقل كبير لفهمه، فقط أنا كنت غبيّا أكثر ممّا يجب.. لقد استسلمت لعالم اللذّة مع السّائحات الأجنبيّات.. اكتشفت أنّ بعضهنّ يهوديّات.. تأكّد لي أن اسرائيليّات ببلدي ويتحدّثون معي!! ابن الكلب أنا!! لعنت نفسي.. استشطت غضبا.. التمثيل الديبلوماسي والتّطبيع أصبح حقيقة!؟ لم أجد اجابة بل لم أجد نفسي.. كلّ شيء كان عاديّا على وجوه النّاس في الشوارع، في أخبار الشاشة والمذياع.. في الخطب السياسية كلّ شيء بدا عاديّا!! فكّرت وقلت هذه المسألة لابدّ لها من عقل كبير. قرّرت الكتابة الى جريدة «الحقيقة» فالقائمون على شؤونها أكيد أنّهم محترمون.. كان انتظاري متحفّزا لصدور ما كتبت وحين نشر صدمت.. لقد حذفوا صفة ما اعتبرته مهمّا بل ما تصوّرته جوهر المسألة.. يوما فقط بعد نشر المقال طردوني من العمل، حقّقوا معي بقسم الشرطة،. أرهقوني، لم يصدّقوا أنّي لا أفهم في السياسة، لم يقتنعوا أنّي مع الدولة وأنّي كتب المقال لأني مع الدولة.. خلوا سبيلي لكنّي فقدت عملي، وتجنّبني الجميع كأني عدوى.