فوكس نيوز: ترامب طلب من مجلس الأمن القومي الاستعداد في غرفة العمليات    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية لفريق فلامينغو في مواجهة الترجي    القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    في 5 سنوات.. 11 مليار دولار خسائر غانا من تهريب الذهب    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    بالفيديو: مطار طبرقة الدولي يستعيد حركته ويستقبل أول رحلة سياحية قادمة من بولونيا    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية للترجي الرياضي في مواجهة فلامينغو    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    اسرائيل تتآكل من الداخل وانفجار مجتمعي على الابواب    بعد تسجيل 121 حريقا في 15 يوما.. بن الشيخ يشدد على ضرورة حماية المحاصيل والغابات    ميناء جرجيس يستقبل أولى رحلات عودة التونسيين بالخارج: 504 مسافرين و292 سيارة    انطلاق عملية التدقيق الخارجي لتجديد شهادة الجودة بوزارة التجهيز والإسكان    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    انطلاق الحملة الانتخابية بدائرة بنزرت الشمالية    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    أخبار الحكومة    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    تونس تعزز جهودها في علاج الإدمان بأدوية داعمة لحماية الشباب واستقرار المجتمع    طقس الليلة    منظمات تونسية تدعو سلطات الشرق الليبي إلى إطلاق سراح الموقوفين من عناصر "قافلة صمود".. وتطالب السلطات التونسية والجزائرية بالتدخل    إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    "تسنيم": الدفاعات الجوية الإيرانية تدمر مقاتلة إسرائيلية من طراز "إف 35" في تبريز    عاجل/ وزير الخارجية يتلقّى إتّصالا من نظيره المصري    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    العطل الرسمية المتبقية للتونسيين في النصف الثاني من 2025    عاجل/ باكستان: المصادقة على مشروع قرار يدعم إيران ضد إسرائيل    عاجل/ شخصية سياسية معروفة يكشف سبب رفضه المشاركة في "قافلة الصمود"    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    189 حريق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية….    النادي الصفاقسي - الإتفاق على مواصلة الهيئة التسييرية المنتهية مدة نيابتها العمل خلال الفترة القادمة وإطلاق حملة "صوت الجمهور" للمساهمة في الخروج من الوضع المادي الدقيق    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    فجر الثلاثاء : الترجي يواجه فلامينغو وتشيلسي يصطدم بلوس أنجلوس: إليك المواعيد !    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسس الجمال وقيم الفن
❊ انجاز: العميري (تونس)
نشر في الشعب يوم 05 - 06 - 2010

أثرنا في الجزء الأول من مقالنا حول مسالة الفن التي تقدم لتلامذتنا في الباكالوريا) الشعب عدد 1076) إشكالية علاقة الأثر الفني بمشكل الحقيقة واستندنا في ذلك الى نظرية هيدجير في المسالة بناء على طرافتها وجدتها.أما في هذا الجزء الثاني فإننا سنقف عند الوجه الثاني لهذه المسالة وهي علاقة الفن بالجمال ومنزلة الجمال في تحديد خصوصية التجربة الفنية كحقل مستقل ومجال متفرد من حيث الممارسة، التذوق والأثر الحضاري .فما هي الأبعاد الجمالية للفن؟ وما العناصر المتحكمة في خلقه وإنشائه؟ وأية قيم يؤسس لها الفن سواء نظرنا إليه من جهة مشكل الحقيقة أو من جهة أبعاده الجمالية المشكلة لفرادته؟ لتوضيح هذهالأسئلة بدا لنا تقديم جزء من الفصل الثاني لكتاب نشر بالفرنسية وترجم الى العربية (1) نظرا لأهميته العلمية والبيداغوجية للجامعية التريكي (RA.Triki,L'esthétique et la question du sens) وقد تم اصداره في ترجمته العربية سنة 2009 في كل من تونس وبيروت.
1 الجميل وتبعية الفن
تتأسس النظرية الأفلاطونية للفن على تأوله ضمن علاقته بالنسق الفلسفي وفي إطار دوره في تمكين الإنسان من الارتقاء إلى عالم المثل والحقائق المطلقة،وعليه فانه لا يمكن التفكير في مسالة الجمال إلا إذا كان هذا الأخير جمالا في ذاته: جوهرا ثابتا وحقيقة سرمدية. إن الجميل عند أفلاطون لا يستمد قيمته من ذاته بل من قيم معيارية خارجة عنه، ونعني بذلك من العلم والخير أي من »الحقيقي والحسن والعادل«، إن الفن يخضع لنواميس تحدده من خارج وترتبط بشروط »القيس والتناسق والاعتدال« (2) ويقوم تصور أفلاطون للجميل على علاقته بالحب كوسيط ،وهو حد سيضع الفن والقيم الجمالية في منزلة "»وسيطة بين المحسوس وما يتجاوز المحسوس« وهو تصور سيتجلى في التصورات الأفلاطونية المحدثة كما أوضح معالمها أفلوطين. يستعيد هذا أفلوطين تصور أفلاطون الذي يجعل أمر الجمال والجميل محددين من خلال المثال والمتعقل والماهية.تقول ترجمة النص المشار إليه أعلاه ما يلي:
»سينعكس تعظيم ومثالية الجميل في مستوى التصورات الجمالية الأفلاطونية المحدثة، وخصوصا حول منزلة الأثر الفني .إن كل تمظهر للقيمة لن يكون بالنسبة لها إلا إشارة غير كافية لتمظهر أعلى، لامرئي لن تكون الآثار الفنية، مثلها في ذلك مثل كل شيء ملائم للإدراك، إلا انعكاسا لمطلق الجمال. سيظل الأثر الفني، دائما،ناقصا ، لأنه عاجز على حمل قيمة، لأن الشكل المشيد غير قادر على تخطي مقاومة المادة نهائيا.
وقد تطور هذا التصور ، أساسا، في الاعتبارات حول الجمال التي نجدها في مستوى »التاسوعة« الأولى لأفلوطين(3). تم تحديد الجمال في هذه »التاسوعة« باعتباره القيمة - المثال التي تقاوم من اجل انتصار الشكل على اللاشكل. تحاول النفس بصعوبة بلوغ الجمال الاسمي لكي تصبح هي نفسها نوريواجه الشكل المحض مقاومة لأشكال العواطف والانفعالات في تجليها الشعري، الموسيقي أو المسرحي.إنها تواجه مقاومة المادة والرؤية البصرية في فنون الرسم. إن المادة التي ستمنح شكل يقيم فيها اللاوجود والشر-المطلق الذي يجعلها متمردة.
إن ما يستحق الاهتمام في هذا التصور هو أن مثال الجمال أو ببساطة قيمة الأثر الفني توجد في فكر المبدع ولا يمكن إلا حدسها في الأثر.لذلك فان الشكل الاسمي المعد لقولبة المادة الرافضة لا يختلط حقيقة مع هذا اللاوجود. وهكذا فإن الأثر الفني قد تم تصوره كمهمة صعبة بل تراجيدية.وسيظهر هذا المنحى، لاحقا، عند النحات الأفلاطوني المحدث »ميكال اونج« (Michel -Angee)وهذا في قلب عصر النهضة، في »الليات« التراجيدية لتماثيل العبيد.إن صور الشخوص لا تتحقق كلية في المادة الخام، الهيولى . وتعطى آثاره، عن قصد، الانطباع بأنها غير مكتملة لكي تبين مقاومة المادة للشكل، ولكن أيضا صعوبة مهمة الفنان في إعطاء هيئة للجمال الذي نزل من السماء.
وقد طور أفلوطين (4) نفسه الفكرة القائلة أن الجمال المحسوس لا يثيرنا إلا لأنه يمثل مظاهر لواقع لامرئي. ولهذا بقدر ما تكون الأشياء المتأمل فيها لا مجسدة مثل النور والنار بقدر ما تلعب دور الشكل بالنسبة للأشياء الأخرى. وفي أقصى حد يبقى الجمال الاسمي واللامقول مخفيا عن الدنيوي لكي ترى لا بد من إغماض عيون الجسد عن مشهد الأشياء الأرضية، »صور وآثار الضلال لمبدأ أعلى«، إن هذه الصور مشابهة للصورة العابرة التي تعكسها المياه، والتي، كما تقول الحكاية، جرت في التيار كل من أراد المسك بها.نفهم من ذلك أن فن الوهم في تمثلات الرسم) التشكيلي أو النحات) يقارن بالانعكاس في ماء نرس.
وهكذا إذن إن كل قيمة الاشياء التي تثيرنا بأشكالها ترتبط جوهريا بقدرتها على المشاركة في الشكل المتعقل،في عقل يأتيها من الإله، والنفس هي التي تتعرف عليه. لذلك يختلط الإحساس الجمالي، في صورته الأكثر نقاء، مع حب اللامرئي الذي يملك إشراق كل الفضائل :يغطي الإحساس بالجميل إذن »عدالة القلب. الكرامة والحياء وفوق كل شيء المعقول المشابه للإله والمشع نورا«. هذه هي الأشياء الجميلة.
سيحضر مثل هذا التصور لدى الكثيرين في تصوراتهم الثيولوجية في العصر الوسيط بكامله سيكون له أيضا تأثير مؤكد بالنسبة لفيلسوف من عصر النهضة مثل »مارسيل فكسان« (Marsile Ficin) الذي يستعيد في شرحه ل »مأدبة« أفلاطون(1469) أسطورة نرجس ليبين سمو جمال النفس وجمال اللامجسد على المادة .توجد هنا، كما هو واضح، منزلة تابعة تماما للأثر الفني.إن القيمة الجمالية ليست كذلك إلا في بعدها الايتيقي والانطولوجي.
ونقف على تأثير الأفلاطونية المحدثة الملموس، في الوقت نفسه، في مكانة القيمة في الآثار الوسيطة ومن خلال طريقة تمثلهم. إن الشيء المعترف به في المسرح التمثيلي (النحات،زجاجية أو الرسم لجداري( ليس له في حد ذاته إلا قيمة المرحل بين عالم الأرض ومابعد الطبيعة الذي يشكله .إن الإيقونة ليست إلا الاشارةالحسية لنظام الهي مطلق.
ستحددالفلسفة الميلادية القديمة) منطلق المسيحية) وستمثل مرجعا في توجيهات تعاونيات الصناعات التقليدية بخصوص طرق تمثيل الأشياء في أشكال كيفية ورمزية. نجد في تصور اغسطين (5) أن معيار الجمال يسكن فكر الفنان، ولكن فقط باعتباره وسيطا بين الإله والعالم المادي.سيشعر المشاهد بما هو ابعد من الأشكال الجميلة التي ادخلها الفنان على المادة، سيشعر بحب جمال لامرئي، يوجد بعيدا عن النفوس. إن علاقة التمثلات الداخلية للفنان بآثاره هي إذن، قياسا على ذلك، التي تقام بين العقل الإلهي والعالم المخلوق من طرفه،لقد تم تصور المثل باعتبارها محايثة لروح الإلهي. زد على ذلك فان الصور الموجودة في فكر الفنان لاتمكن البتة وحقيقة من معرفة المثل الخاصة بالروح الإلهي، ولكن هي فقط رؤى صوفية يسعى لإنتاجها رمزيا بواسطة الإيقونة.
سيترجم هذا عند توما الاكويني (6). بالتفكير في طبيعة الشكل المتحكم في الإنتاج الفني والمحدد لخصوصية الفن الوسيط. إن المنزلة الوسيطة للفن، التي رأينا كيف بلورها اغسطين،هي إذن موضوع اهتمام بالشكل من خلال المثال الأرسطي لفن المعمار.يبرز المبدأ الذي سيتم حسبه إنتاج شكل الشيء الذي يجب أن يحيل عند المنتج إلى نموذج، بطريقتين؛إما أن شكل الذي سينتج موجودة مسبقا بعنوان موجود طبيعي، وهذا هو حال الإنسان الذي يولد إنسانا أو النار التي تولد النار؛أو أن الشكل يوجد مسبقا بعنوان موجود عقلي مثل فكرة المنزل في عقل المهندس المعماري الذي يجهد نفسه لإنتاجه. ويسمح هذا التمييز بطرح، قياسا، خلق العالم انطلاقا من الجوهر المفهومي لفكرة العالم كشكل قائم في الروح الإلهي.
يعد فن المعمار مثالا مفضلا من حيث انه لا يعود إلى أي مرجع موجود خارج الفكرة المتصورة من طرف المهندس المعماري لا يمكن التفكير في الفن في علاقته بالطبيعة ، عند توما الاكويني، إلا قياسا وليس في علاقة محاكاة، لهذا سيهيمن البعد الرمزي على الايقنة في العصر الوسيط إن التمثلات أشبه ما يكون بالمختصرات للعالم أين تعبر الكائنات الحية عن أفكار الإله. يصبح الفن حينئذ كتابة مقدسة ينبغي على كل فنان أن يتعلم كيف يثبت الإشارات في المشاهد الثابتة المنظمة حسب الإنجيل ولا يبقى للمؤمنين إلا قراءة ما يعرفونه بعد بالايمان،وهم يتنقلون من جزء إلى آخر في الأثر الفني (زجاجية، النتوءات المنخفضة، رسم جداري في تراص أو تجاورللأجزاء التي تقدم مشاهد رحلة تتكون في آن من أشخاص إنجيليين وعالم رمزي من الحيوان والنبات). إن كل تمثل يهيمن عليه مبدأ التوسع، التنسيق والتتابع اللامحدود.
إن المواضيع الموسومة أو المنحوتة تبدو فاعلة في المساحة المسطحة عبر سلطة صادرة من فوق أكثر منها نابعة من المواضيع نفسها.ليس للأشياء إلا قيمة الواصل بين عالم الأرض و عالم ما فوق الطبيعة الذي يشكله.ومن الواضح أن الأثر الفني يصبح نوعا من المؤسسة أكثر منه إبداعا، وهو أمر لا يمكن التفكير فيه في مثل ذلك السياق.يعتبر الفن إذن مؤسسة المتعالي التي يتعرف عليها المؤمنون مدفوعين بالإيمان من خلال مرصد رمزي وأخلاقي.
وهكذا سيحكم على الأثر الفني من خلال قدرته على إنتاج آثار حسية في المؤمن وفي أن يصبح، بالنسبة له، مسلكا للخلاص بتنبيه القيم الأساسية للشفقة والإحسان والطيبة الخ...يكون الفن إذن في خدمة الإيمان، وتقييمه لا يمكن أن يتكون داخليا.فهل يمكن الحديث، بعد، في مثل هذه الحالة، عن حكم جمالي؟
في الواقع إذا كان الحكم الجمالي يختلط هنا مع الحكم الأخلاقي ومع اعتبارات دينية، فلن يبقى من طريقة لتقديم الآثار الفنية وبيان تماسكها إلا بالوقوف عند درجة الإثارة التي توقظها عند المشاهد.إن إتقان التصوير والترتيب العام للأثر، وتوزيع الألوان الرمزية، كل هذا يساهم، على زجاجية، على رسم جداري، في شد الانتباه وإثارة المشاهد الذي أصبح فاعلا بقراءته للإشارات المقدمة.
لا يمكننا، إذن، تخصيصا، الحديث عن غياب للبعد الجمالي،لكن يمكن الحديث عن غياب للاعتبار الجمالي الصرف في خصوص قيمة التعبير للأثر: وفعلا يبدو جليا، من خلال التقنين الواسع لطرق التمثل الرمزية التي تنتهي بإضفاء التجانس على فضاءات الآثار الفنية في مواد وأمكنة مختلفة ، أن بعض الزجاجيات، وبعض الرسوم الجدارية وبعض اللوحات الجبهية للكنيسة كانت في زمنها أكثر تقدير من أخرى.يلاحظ »أميل مال« (Emile Male) أن النبات القوطي لكنيسة (Notre-Dame) في باريس تشهد على عناية كبيرة بالجزء المفصل للطبيعة، أو أيضا أن الميداليات الصغيرة التي تزين أرضية مدخل كاتدرائية ليون تمثل »حيوانات فحصت بعين ثاقبة، وفوجئت في حركاتها العادية، لافتة للانتباه أن تكون كذلك بالنسبة لمؤمن تلك الفترة، ولكن جمالها ليس البتة اقل من الجمال الذي يجب أو ترقى إليه«.
وهكذا يتبين لنا: »انه كلما كان الموضوع الفن أكثر خضوعا لاعتبارات خارجية، كلما ضاعت أكثر قيمته الجمالية تحت قيم أخلاقية، دينية أو ببساطة تحت نظام للمعرفة«.
2 الشكل:
أن يكون الجميل قد تماسس كقيمة بامتياز فان هذا يعود إلى تصوره كشكل صرف، مثال، وجود متعقل ولا متجسد. يعني الشكل في اللاتينية (formusus) الجميل. يختزل إذن هذا التحديد الأثر الفني، بالمناسبة، في المواد وفي حاو يتأتى معناه من عالم بعيد متعال.وحتى إذا كان الشكل الجميل قد التقط بالنظر فان هذا الأخير لم يعتبر إلا كنافذة للنفس.لقد أخفي، نوعا ما، كل البعد الحسي للأثر الفني، وتم تجنبه.وتلعب الانفعالات واللذة الجمالية دور الإشارات، دور الآثار، دور الظواهر الثانوية.ويعتبر الفنان مقلداأو محاكياالكاهن أو الوسيط؛ ويجد المشاهد نفسه مختزلا في مجال الرأي أو الجهل.إنه من يجب تربيته، من يجب أن يرتقي، أن يغادر حقل الحسي.توجد إذن القيمة خارج حقل الأثر الفني وخارج الشعور اللذين يستمدان وجودهما، رغم ذلك، منه.
تكون نتيجة مثل ذلك التصور الذي أتينا تبعية الفن، لأنه تصور يفضل الروحي على حساب الحواسي.إنه تصور سيحدد، لزمن طويل، بعض نظريات الفن وبعض المواقف والممارسات.
إن أولوية الشكل على المادة أو المضمون سيكون لها كأثر وضع قواعد، وضع رموز لقوانين الفن التي ستكون كذلك معايير جمالية تراقب الممارسة الفنية من خلال المؤسسات الأكاديمية . إن التصوير الذي يبرز شكل الرسم أو المشروع المعماري سيحتل منزلة أفضل مقارنة بالمواد والألوان. انه يسمح بالأشكال المثالية للدائرة والمثلث الذهبي المستعملة كثيرا في عصر النهضة.إن التناسق، النظام والقياس سيهتمون ببنية المجموع، باكتمال المجموع عوضا عن الاهتمام بالأجزاء أو فرادة الجزء أو الفارق .سيقيس التناسق والنسب الصحيحة الإيقاع، القافية وتوازن التكوينات، ستعتبر الاختراقات المبالغات، عدم الاكتمال ، التقابل الصادم، وكثافة المادة) الألوان في الرسم، الانفعالات في الشعر أو الأدب، المصوتية في الموسيقى) نواقص. إن ما يقصيه مثل هذا التصور إذن هوما نعنيه عادة بلفظ إبداع عندما نربطه بالجدة، بالأصالة، بالغرابة.
ونلاحظ انه ما دامت القيمة الجمالية مرتبطة بمثالية الجميل، فان الأولوية في أحكام وتقديرات الموضوع الجميل، هي للخاصيات اللازمنية والكونية.نجد هذا التقليد في التفكير في قلب القرن18 ، في تحاليل ديدرو، والتي مع ذلك قد افتتحت النقد الفني في صالوناته. يتمسك ديدرو في »بحوث فلسفية حول مصدر الجميل« (1751) كما في مقال »الجميل« في الموسوعة، رغم انه يرفض تصور جميل في ذاته، بأن ما نحكم بأنه جميل في شيء متأت من طبيعته المنظمة، المتناسقة والمتناظرة، و بعبارة أخرى مما يسميه التوافق أو التلاؤم تقدم كل تلك الخاصيات تحت الإدراك، الإحساس أو تعقل العلاقات الضرورية. إن هذا التعريف، زد على ذلك، قريبا جدا من التعريف الذي قدمه أول مؤرخ لفن التصوير، ملخصا بهذا المبدأ المهيمن لكلاسيكية عصر النهضة :يقول »يتطلب الأمر المسك بعلاقة الكل بالأجزاء، وعلاقة الأجزاء فيما بينها وبين الكل،وذلك سواء تعلق الأمر بجسد الإنسان، أو الحيوانات، النباتات أو الصروح، بنحت أو رسم بهذا الفهم يتكون مفهوم، علة في العقل ناتجةعن الشيء والتي يسمى تعبيرها اليدوي تصويرا«.
يرتبط الجمال، مرة أخرى، ارتباطا حميميا، بالشكل الذي يثبته أفضل التصوير المنتمي لمصيره كمشروع وغاية الأثر. إن تقارب حقل الأخلاق والجماليات قد تجلى عموما، زد على ذلك، من خلال نعت فعل بالجميل، اعتبارا لنبل وصفاءالقصديةالتي ترأسه.
إذا كان صحيحا أن الحكم الجمالي قد اعتبر، مع كانط، إلا حكم ذاتية متلقية جوهريا، ذاتية لا تستند إلى أي تعال، ولا إلى أي مفهوم للجميل، فان هذا لم يمنع من تعريف الجمال باعتباره »شكل غائية شيء مدرك دون تمثل لأي غاية«.
وفعلا يتعلق الأمر، لا بالنسبة لهذا المنظر للحكم الجمالي بشكل خاص، مأخوذا دون الاستناد إلى مفاهيم الذهن أو إلى أفكار العقل، بإنقاذ الجمال الحسي من مجرد الملاءمة (التي تمنح هي أيضا لذة (ليؤسس ادعاء الكونية لكل حكم ذوق، الذي لا يعير أي اهتمام لوجود الشيء سيكون الجمال إذن لا ملاءمة، ولا معرفة، بل ما يكون في الشيء مناسبة للحساسية لشعور بلذة محض، مثارا بواسطة اللعب الحر للمخيلة والذهن إن الشيء المقدر جميلا هو الشيء الذي من خلاله توجد المخيلة، في فهمها لشكل جميل ولا لعنصر مادي للتمثل، موحدة للتعدد، في وحدة وكأنها تتحمل تقديم مفهوم للذهن.يوضح كانط أن الشكل »هو توحيد للتنوع في وحدة دون أن يكون محددا ما يجب أن تكونه هذه الوحدة« ليس الجمال خاصية للشيء، ولا حتى مرجعا مثاليا يجب أن يسعى باتجاهه الشيء ولكنه خاصية للتمثل نفسه الذي يحدث في التنشيط المتبادل للذهن والمخيلة، خارج عملية المعرفة. وهذا ما يمكن من فهم انه بالنسبة لكل ذات تقيم، يثير تمثل الموضوع الجمالي كشكل، ضرورة، اللذة الجمالية المقياس الحسي والذاتي لجمال الموضوع.
إذا كان الحكم الجمالي قد اكتسب استقلاله عن المعرفة والحقيقة، فان قيمة الجمال تبقى مرتبطة بالقدرة على التواصل الكوني لحالة الفكر في تمثل،حتى وان كان هذا الأخير لا يمثل إلا شرطا ذاتيا لهذا الحكم؛ إن الجمالية ، نوعا ما، طريقة تمثل الشيء الجمالي.وتبقى، في هذا، شكلية صرفة، لا تلامس لا المادة، ولا عمل الأثر، وهي، دائما، موحدة لشخصية التجارب الجمالية بما أنها لا تعبر إلا عن تجربة حالة للذاتية التي تشهد عليها اللذة الجمالية.
غير أن هذه الخاصية الشكلية والحسية، في الوقت نفسه، والتي تحرره، في الآن نفسه من مضمون حسي كما هو فوق حسي ستكون، نوعا ما، الخانة الفارغة منها تستطيع انطلاقا من مجرد مقياس اللذة الجمالية، قيم جمالية جديدة الدخول (بما أنه سوف يؤخذ بعين الاعتبار إلا أثر الأشياء على الحساسية). إن حقيقة هذه التأثيرات ستؤدي إلى تنوع في التقدير مرتبط بشدة وموجات اللذة المحسوس بها أثناء ملامسة شيء مأخوذا خارج استعماله.
3 الجليل
يمثل الجليل القيمة الأولى التي انفصلت عن المعنى العام لمثال الجمال الذي يغطي كل النعوت الممكنة للشيء الجميل. وليس مستغربا، من جهة أخرى، إن هذه القيمة التي دخلت في حقل التفكير الجمالي الما قبل-كانطي قد تطورت بطريقة نسقية من طرف كانط نفسه. يستعيد كانط خاصيات الجليل التي قدمها »بيرك«Burke) أي شعور الغبطة المصحوبة بالرعب أمام قوة ولا قياسية بعض المشاهد الطبيعية) ولكنه يتجاوز التحليل الفيزيولوجي الصرف.
خلافا للجميل الذي يكون حصيلة شعور بالانشراح، بالهدوء وبالانسجام مع العالم، يبدو أن الجليل يعنف مخيلتنا ويعكر بحثنا. فهو يأتى، مثلا، من رؤية إعصار كبير على المحيط، من انطباع الذهول، من تهديد لتوازننا الأخلاقي والفيزيائي ومن الانطباع الضروري بمتعة وانجذاب.إن هذا الازدواج في المعنى جعل كانط يقول: »إن الشيء كجليل يتلقى بلذة لا تكون ممكنة إلا بالكدر«. يفسر هذه الوضعية بالتمجيد الذي يتجاوز مجرد قياس الحواس. يمكن القول أن الجليل هوالاشارة الجمالية لوضعيتنا ككائنات عاقلة، أرقى من الوضعية الحيوانية. وفعلا يوضح كانط انه حتى يكون وجودنا، ككائنات تجريبية، مهددا، ولأنه تحديدا مهدد، فنحن نعبر، في إحساس بالمتعة، عن تفوقنا من حيث الجدارة ، عن عالم الظواهر الذي نهيمن عليه بالفكر.إن هذا اللغز لا يقبل التفكير إلا لان التجربة الجمالية تنفتح على الايتيقا، على استقلالية الإنسان عن الطبيعة.
لا يحمل، إذن، الجليل كقيمة على الكبر الرياضي للبعد الفضائي لأنه جليل ديناميكي من نظام كبر القوة.ويفلت تقييمه عن القيس والتعقل المفهومي في ان. يظهر لنا، لذلك، في العاطفة العنيفة، في النقلة، في جرح الحساسية الذي يتبع مباشرة قوة ونبل النفس.يرى في هذا كانط اثر محدودية مخيلتنا التي تصاحب طموح عقلنا للكلية.
ستجد هذه القيمة المميزة بالديناميكية، الكبر والرفعة، حقلها المفضل في فن الباروك، في ارتفاع وصعود الأجساد المرسومة) منذ الرسم الجداري للحكم الأخير وفي ما بعد مدة القرن 17كله) ستكون أصالة موسيقى بيتهوفن، في الحركة التصاعدية وعنف بعض السنفونيات والرباعياتquatuors.يكون الجليل تحت هذا العنوان أكثر جمالية من الجميل لأنه يجرح الحساسية ويحمل بعيدا بقوة النفس. لكن هذا الإفراط في الجمال كعلامة ما هو فوق-حسي، أليس هو نفسه ما جعل أفلاطون، في »المادية« يقول حول موضوع الجمال المطلق منظورا إليه عبر صورة شكل جميل: يشعر الإنسان »عند رؤيته بالحمى، يغير لونه، يحس بحرارة غير عادية... والنفس في كليتها، الراحلة دائريا،تتحرك داخل الهيجان والمعاناة، بينما تذكر الجمال لا يتركها دون بهجة.مقسمة بين إحساسين متضادين، فهي واقعة تحت تأثير هذه الحالة الغريبة« انه وصف قريب، بشكل مدهش، من الوصف الذي يعطيه بيرك وكانط للجليل ولكن أيضا من الوصف الذي ينبع من اعتبارات باسكال حول المتناهي واللامتناهي، ولكن ربما يكون هذا التقارب ليس شيئا آخر غير حقل الجماليات. وفعلا إذا كان اعتبار شيء خارج استعماله، لفترة طويلة، قد أعطى المجال، لأسباب تنظيرية للتوحيد، لمقولة الجميل ليعين مناسبة اللذة الجمالية، فان هذه المقولة ستولد منها، نوعا ما، من فروقها ومن ثراء المحسوس،منذ اللحظة التي أصبح فيها هذا الأخير موضوع دراسة مستقلة (7).
يمكن القول في الخاتمة أن أهمية هذا النص تكمن في إبرازه للأسس التي ينبني عليها كل خطاب حول الفن في بعديه الجمالي والمعرفي ،وهي أسس بقدر ما تكشف اثر التاريخ والظروف الموضوعية تكشف أيضا دورالانسان في نحت مصيره وتأثيث وجوده من خلال الإبداع.إن الانسان لا يكون كذلك،في التجربة الجمالية، إلا إذا كان قادرا على انشاءالقيمة والمعني تعبيرا عن إرادة لا محدودة للاحتفال بالانساني حيث تأتى لنا إرساؤه :انطولوجيا ومعرفيا وسياسيا واخلاقيا و فنيا جماليا.
1 التريكي، الجماليات وسؤال المعنى، ترابراهيم العميري، الدار المتوسطية للنشر،بيروت-تونس،2009
2 تفس المرجع السابق،ص37.
3- Plotin,Ennéades, Livre VI,trad.E.Brehier,Paris,1964.
4- Plotin, Confessions, Livre X.
5- Thomas DAquin, La somme théologique II,1,qu.47,art7,Cerf 1991.
6- Hume,Essai sur la norme du gout, trad. R.Bouveresse,Paris ,1975.
7 التركي،الجماليات وسؤال المعنى،ترجمة ابراهيم العميري،الدار المتوسطية للنشر،بيروت-تونس 2009.الصفحات37-47.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.