الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن بين التناهي الطبيعي واللاتناهي الفكري
هيقل : بقلم الأستاذ : زكي العبيدي
نشر في الشعب يوم 22 - 05 - 2010

ينقلنا الفن من ألم الوجود ومعاناته إلى الفرح والسرور ويحملنا من عالم الضرورة والقيود إلى عالم اللاتناهي والحرية ، وبذلك يكون الفن مراوحة بين الفكر والطبيعة ، وبين الواقع والأمل وبين الحرية والضرورة ، وبين الشكل والمضمون ، وأخيرا بين الذات والموضوع . إن هذه النظرة الشمولية لم تكن قائمة قبل هيل الذي وصفه ألكسندر كوجيف قائلا «لم يفلت أحد من القبضة الهيلية» لأنه اكتسب بامتياز صورة المنظور الكلي للحقيقة عموما وحقيقة الفن خصوصا إذ نجده يرتقي به إلى ماهو إنساني في الإنسان ، أنه شيء من الحقيقة والاكتمال دون أن يكون منفصلا عن الواقع المباشر للإنسان سواء كان ذلك في المستوى الاجتماعي الموضوعي أو الذاتي ، ودون أن يفقد بذلك الفن قدرته على استيعاب الذات لذاتها استيعابا وتمثلا لذاتها وحياتها وعلاقتها بالواقع استيعابا روحيا ممتعا ، شاملا وذلك في قالب صور حسية «فالفن شكل من إشكال امتلاك الإنسان امتلاكا فكريا لذاته وللعالم ، وبالتالي شكل من أشكال وعيه الاجتماعي»(1) .
لذلك نجد هيل يكشف الرباط الوثيق بين الإنسان والفن مؤكدا فكرة بومغارتن 1762-1712 (وهو أول من عرف علم الجمال في مؤلفه الاستيتيقا) في إمكانية تنزيل الفن في سجل استيتيقي رافضا بذلك اعتراضين : الأول يتعلل بلا تناهي الجمال وتنوعه ، والثاني هو الجمال كخيال وحدس وتجربة شعورية غير قابلة للدراسة العلمية . ولكن هيل يؤكد أن الفن يمكن أن يكون موضوعا فلسفيا أو مايسمى «بعلم الجمال» مبينا مشروعية قيام هذا العلم انطلاقا من أن الوهم يقوم في الواقع أكثر من الفن « إننا لانطلق اسم الأوهام لا على أشياء العالم الخارجي ، ولا على مايكمن في عالمنا الباطن ، في وعينا . ولا شيء يمنعنا من القول أن ظاهر الفن ، قياسا إلى ذلك الواقع ، وهمي ، لكننا نستطيع القول بقدر مماثل من الصواب أن مانسميه بالواقع وهم أقوى وأشد ظاهرا أكثر خداعا من ظاهر الفن» (2) وهذا يعني أن الفن أكثر نقاء من الواقع الذي يحمل في طياته أوجه الخداع والإخفاء . فالفن أقرب إلى الحقيقة وهو صورة متحررة من الواقع ولكنها محايثة له إلى درجة تجعلنا نشرع إلى إمكانية قيام الاستيتيقا أو علم الجمال الذي اعتبره هيل من الناحية الابستمولوجية شبيها بعلم النفس لايكون موضوعه غير المادي عائقا أمام علميته ((راجع المدخل الى علم الجمال ص 9 - دار الطليعة). لذا يبرز هيل حقيقة الفن في قدرته على التعبير عما هو إنساني ، حيث يندرج الكلي ذلك أن الفن يرتقي إلى الحقيقة لأن انشغاله بالكلي يعتبر اهتماما بالجزيء وإذا انشغل بالجزيء فهو يهتم بالكلي طالما أن الكلي يكمن في الجزيء والعكس بالعكس ، وأن الفصل بين هذا الزوج ألمفهومي أمر متعذر لأن الرأي الذي يعتبر الجزيء نقيض الكلي قد ولى دون رجعة .
وبما أن الفن ينشغل بالإنسان في كليته فهو يمكن أن يكون موضوعا للدراسة الفلسفية وذلك في إطار علم الجمال الذي وضع ركائزه هيغل ، يقول جورج لوكاتش «لولا هيل لما كان علم الجمال على ماهو عليه» لهذا نجده يحمل الفن رغبة المرء في معالجة روح الجد العلمي فيما هو عار من الجد وبذلك يخرجه من دائرة التحذلق والابتذال دون أن يجعل منه تعبيرا جديا يلعب دور الوساطة بين العقل والحساسية ، لذا يمكن القول بأن الفن ينقلنا من التناهي الطبيعي إلى اللاتناهي الفكري ويمكننا من تجاوز مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية . ويمكن من تجسيم أسمى طموح يتطلع إليه الإنسان. ولكن هذا الانتقال لايمكن الفكرة من مبارحة الواقع طالما أن «كل ما هو عقلاني واقعي ، وكل ماهو واقعي عقلاني» بعبارة هيل . فالفن شيء من الواقع وهو محايث للصيرورة التاريخية . وهنا تكمن الحقيقة الفنية المتطورة بتطور المفهوم وبتطور التاريخ المباشر للإنسانية طالما أن هنالك انبساط واحد بعينه في الفكر وفي تاريخه ، ولهذا يؤكد هيل الرابطة المتين القائم بين الفن والثقافة قائلا «إن الجمال يتدخل في كل ظروف حياتنا فإذا نظرنا حولنا للبحث عن مصادره التي يظهر لنا فيها لأدركنا لماذا أودعت الشعوب في الفن أسمى أفكارها ومشاعرها ، بحيث يمثل الفن غالبا الأداة الوحيدة لفهم ثقافة شعبها» (3) وهذا ما يفسر اهتمام هيل بالفن المعماري بوصفه رمز لحضارة الشعب تظهر ضمنه أمال تلك الحضارة وسموها وقدرتها على التعبير فهو «لغة تخاطب الروح وان كانت خرساء» (4) إن هذه المعالم توقظ في الإنسان التمثلات العامة وتجعله يدرك حقيقة العلاقة بين الإبداع والدين والتاريخ والمعرفة . وهذا ليس غريبا على فلسفة هيل التي تجعل من الفن «تجليا حسيا للروح (الوعي) المطلق» وفي هذا المستوى يلتقي الفن مع الدين والفلسفة ، لذا لا يكون الفن تقليدا شكليا للواقع ، والغاية السامية التي يهدف لها هي تلك التي يشترك فيها مع الدين والفلسفة ، وهو أقل الأشكال اكتمالا طالما أنه في علاقة تلازم ضروري مع الحسي . ويمكن أن نفهم هذا عندما نتتبع رحلة الوعي لدى هيل التي تبدأ من مستوى وعي الذات بذاتها ثم الوعي الموضوعي وصولا إلى الوعي المطلق الذي يتضمن الفن والدين والفلسفة وتبرز أهمية الفن في كونه عبارة على حوار جدلي بين الحسي والوعي المطلق ومعنى هذا أنه «في الفن تتعرف الفكرة المطلقة على ذاتها في قالب رؤى حسية» (5) بعبارة هيل . وهنا تتحرر الفكرة من حدود الطبيعة . وفي الدين يكمن الإلهي في كمال صفاته أما في الفلسفة تكمن الحقيقة بما أن الفلسفة قمة تطورها.
الوعي المطلق والمفهوم ، الذي وان قام كمثل أعلى يمكث في علاقة بالواقع «الفلسفة هي العالم ملخص في الفكر» أو هي «فكرة العالم « كما عبر عن ذلك هيل . فلقاء الفلسفة والدين والفن يتم في مستوى الروح المطلق الذي يكون الفن تعبيرا حسيا عنه ، بينما يكون الدين تعبيرا رمزيا للروح ، أما الفلسفة فهي مرحلة أرقى يحمل فيها الروح على الوعي الذاتي التام . وبما أن الفن يجسم محايثة مباشرة مع المحسوس والمتناهي فهو أقل اكتمالا من الدين والفلسفة لذا يعبر عن مصالح الإنسان ومنافعه . وهنا نجد هيل يسخر من الذين يعتقدون أن الفن خال تماما من النفع مقدما مثال الرجل الذي يقوم بحركات بهلوانية بحبات العدس أمام الاسكندر الأكبر فكان أن كافأه بشيء من العدس لأن ذلك النشاط لا طائل منه ولافائدة . وبهذا المنظور ندرك أن هيل يجعل للفن مضمون عملي في التجربة الحسية ولكنه يرتقي به إلى الحقيقة قائلا «هكذا يعلم الفن الإنسان عن الإنساني ويوقظ فيه مشاعر راقدة ، يضعنا في حضرة اهتمامات الروح الحقيقية» (6) فالفن يقيم علاقة بين الجانب الخارجي الحسي المتناهي وعمق الفكر . وهو علاقة بين الواقع والإنسان وهذا يفرض حوارا مبدعا خلاقا بين الشكل والمضمون . طالما أن الأثر الفني يعبر عن الروح وحاجاتها التي تسعى إلى إظهارها للعيان فهو كاللغة التي نحقق من خلالها مقاصدنا المتنوعة ، ولكن الفرق بين الأثر الفني واللغة هو كونها تحمل علامات اعتباطية غير مبررة ولا تستوجب رابطا بين الدال والمدلول بينما يشترط الفن أن تقوم علاقة تبرير وتلازم بين الشكل والمضمون «غير أن وسيلة التواصل في اللغة هي مجرد علامة ، وهي لذلك علامة اعتباطية تقع خارج حدود الفكرة أما الفن فهو بخلاف ذلك ليس من شأنه أن يقتصر على استخدام علامات بل عليه أن يمنح الأفكار ما يناسبها من الوجود المحسوس . وهكذا فينبغي للأثر الفني الذي تقع عليه الحواس أن ينطوي في ذاته على مضمون ما» . (7) والمضمون هنا ليس أي نتاج من نتاجات الطبيعة بل هو نتاج لتمثلات الروح وقدرتها على إنتاج الجميل . وفي هذا المستوى تقوم عظمة الفن الذي يستطيع التعبير بصورة جمالية عن نشاطات الروح وتمثلاتها وعلاقتها بالواقع الإنساني وتجسيم حوار الذات والموضوع لينتج الأثر الفني الذي يعرض أمام أنظار الناس ويتحول تدريجيا إلى تمثل جماعي وذلك مايقوم في الفن المعماري مثلا الذي «صرفت الشعوب ... حياتها كلها وجميع أوجه نشاطها في سبيل تشييدها» (8). وهنا يتأكد الرابط بين الشكل والمضمون الذي جعل منه هيل أساسا لقراءة تاريخ الفن حيث تقوم أولا المرحلة الرمزية وهي مرحلة الفن الشرقي الذي يظهر فيه اختلال بين كثافة المادة ومحدودية الفكرة ، فلو أخذنا الأهرامات مثلا لوجدنا مادتها ضخمة بالمقارنة بالفكرة التي تسكنها وهي مقبرة الآلهة . وهنا يتفوق الشكل المادي على المضمون الفكري بالضرورة . وثانيا المرحلة الكلاسيكية وهي مرحلة الفن اليوناني حيث يقوم التوافق بين الشكل والمضمون ويظهر ذلك في النحت اليوناني الذي يتضمن تناسب المادة غير الكثيفة والمضمون ويظهر ذلك بوضوح أكبر في الملحمة الشعرية التي مجدت البطولة وخلدتها واعتبرتها جزءا من فضائل الأمة وهنا نعثر على لقاء الصورة الشخصية والحقيقة الموضوعية من ناحية ولقاء الإنساني بالإلهي في إطار المثل الأعلى الجمالي . «قد أضفى النحات اليوناني الصورة الإنسانية على الآلهة فعبر عن الروح وأوجد بذات الوقت مثالا أعلى للجمال» (9) .
ثالثا : المرحلة الرومانسية وهي مرحلة الفن في القرون الوسطى والفن الحديث وهنا يتفوق المضمون الفكري على الشكل المادي . فهذه المرحلة تكشف عن تطور تاريخي للفكرة وقدرتها على تجاوز المادة وتلك هي علامة على تحرر الروح من سيطرة المادة لتعبر عن لحظة انطلاقها إلى المطلق وبهذا يتفوق المضمون على الشكل وذلك مانلاحظه في الرسم والموسيقى والشعر يقول هيل «أن الشعر هو الفن المطلق للفكر الذي أصبح حرا في طبيعته» (10)لذلك يتأكد لنا أننا إزاء تواتر وتناغم يكشف فيه الفن عن صورة الإنسان كمفهوم وككلية في علاقتها بالمطلق الإلهي أو الحقيقة ذلك أن الإله بمنظور هيل هو الحقيقة «وما الفن سوى خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة» (11) أن هذه الخلفية هي التي جعلت فكرة هيل حول الفن تولد من نقيضها وفق القانون الجدلي «نفي النفي» والإثبات أي أن فكرة هيل تولد من رحم الفكرة الأفلاطونية لتجسم نقيضها في الصيرورة التاريخية ولهذا نجد هيل يرفض المحاكاة قائلا «ينبغي إذا أن يكون للفن هدف أخر غير هدف المحاكاة الشكلية الصرف لما يوجد ، تلك المحاكاة التي لايمكن أن ينتج عنها سوى عيب تقنية لا تمت بصلة إلى العمل الفني» (12) والمحاكاة (mémisis) فكرة ينسبها أفلاطون للفن ليكون في مرتبة ظنية (doxa) للحقيقة . ذلك أن الحقيقة الأولى توجد في عالم المثل أي عالم الحقيقة والماهيات الكبرى (الخير والحق والجمال) والحقيقة الثانية هي النسخ الذي يقوم به الحرفي أو النجار للمهد وهي ليست الحقيقة بل هي مجرد وهم قد تذكرته طالم أن «المعرفة تذكر والجهل نسيان» وحين يعمل الرسام على نسخ المهد فهو ينتج وهم الوهم أو نسخ النسخ ولهذا احتلت المرتبة الثالثة من الحقيقة بمنظور أفلاطون . ولايقف الفن عند حدود إنتاج الوهم بل ينتج الإيهام وذلك مايقوم به الشعراء في خطابهم المغالط الذي يخاطب الوجدان لاالعقل ويعمل على استمالة السامعين لجلبهم إلى مواقع التغليط ، ولهذا دعا أفلاطون إلى إقصائهم من جمهوريته.
لكن هيل كما رأينا يعتبر الشعر فنا يرتقي بالروح إلى مواطن الحقيقة ويمكن الذات من التعرف على ذاتها في عالم من الحرية . لذلك اعتبر فيلسوفنا المحاكاة عملية تقنية مبتذلة نافية من الإنسان كلما هو روحي وكلي وكل ماهو حقيقة . وهذا ما جعله يصف هذه العملية التقنية بما يلي «إن ثمة رسوم لأشخاص يقال عنها بشيء من الدعابة أنها تشبه الأصل إلى حد الغثيان» (13) ومرد ذلك أن محاكاة الطبيعة لا تنتج سوى الابتذال ويماثل هيل هذه العملية بالدودة التي تحاول أن تقلد الفيل ، فلا تجوز المقارنة .
نستنتج مما تقدم أن الفن الذي يسعى إلى محاكاة الطبيعة سيبقى عاجزا عن هذا الرهان لأن مايعجبنا في حقيقة الأمر محاكاة الطبيعة لما هو إنساني فنستخدم بذلك أوصافا إنسانية في وصف جمالية الطبيعة فنقول الجبل متوج بالزهور أو البلبل يغني ... الخ .
لذلك يدحض هيل مزاعم القول بمحاكاة الفن لما هو طبيعي انطلاقا من أن هذه العملية لا تستوجب من الفكر سوى استحضار الذاكرة لما هو مباشر ، بينما يكون رهان الفن مجسما في الحرية وفي قدرته على التعبير عما هو جميل . وحتى المحاولات التي تستحضر الطبيعة في مباشرتها تحمل في طياتها دافع التفوق الإنساني وسعيه الدؤوب إلى البراعة والإبداع والخلق وبذلك ينبع هذا الجهد من الروح لأن مضمون الفن لا يكون إلا من طبيعة روحية وهو لايرضى بالواقع لأنه إيقاظ للنفس وهذا هو الهدف النهائي للفن الذي يكشف عن الجوهري في كليته وسموه وحقيقته. لذلك يفرض الفن تجربة جديدة للحياة ترتقي إلى المضمون الكامن في الفكر ولهذا يوقظ الفن الشعور . «والحال إن ما نسعى إليه و نطلبه ليس ترضية الذاكرة فحسب ، عن طريق الاستحضار المباشر للحياة كليتها ، وإنما أيضا ترضية النفس» (14) وذلك بنقل جميع المضامين إلى باطن النفس الإنسانية ليمكنها من الإحساس بالمصائب والآلام وكل الانفعالات القائمة في التجربة الانطلوجية . وتلك هي مفارقة الفن الذي يرتقي بنا إلى مواطن السمو ولكنه يغوص في تفاصيل التجربة الإنسانية بأهوائها وحماستها وشهواتها ... ولكن حين تتوطد العلاقة بين شكل الأثر الفني ومضامينه تتجسم حقيقة الروح في حريتها وتجاوزها للوحشية وتلطيفها للقبح ونقله إلى مواقع الجمال وهنا يقوم الفن بوظيفة أخلاقية تهذيبية فهو يساعد على التسامي عن الرغبة المباشرة (الكاتارسيس) «هدف الفن يكمن لا في استحضار الأهواء فحسب ، بل أيضا في تطهيرها» (15) بعبارة هيغل . نتبين من هذه الوظيفة أن الفن إلمام بحقيقة الإنسان في أبعادها المتنوعة : الحسي الشهوي وما يقابله من سمو وجمال وفضيلة . الواقع المرئي والخيال المطلق . العالم في فظاظته وجمالية الروح . التناهي الطبيعي واللاتناهي الفكري . أن كل ذلك يكشف عن الوحدة في إطار التناقض لنؤكد بأن الفن هو الحقيقة وهو الحرية التي اعتبرها هيغل وعيا للضرورة (الضرورة : قوانين الواقع بأبعاده المختلفة و التي يخضع لها الإنسان) . فالفن ينساب بين تلك المتناقضات ليجسم وحدة العقل والواقع وليكشف العلاقة بين النفي والإثبات فهو تأكيد للحقيقة وكشف لها وإعادة صياغتها لذلك يؤكد هيل الوظيفة النفسية والأخلاقية للفن وبهذا لايمكن أن يكون منشدا لابتذال المحاكاة فهو رفض لها وانتصار للإنسان في كليته . ولكن هيل يعترف بأن الفهم الأفلاطوني والأرسطي كان مشروعا في رحلة الوعي في التاريخ إذ نجده يقول «يوم كان التفكير مازال يحبو في بداياته ، كان من الممكن الاكتفاء بفكرة مماثلة (الإشارة إلى المحاكاة) شيء سيكشف لنا عن أنه آن من آناء الفكر» (16) ولكن القفزة النوعية التي أقامها هيل كشفت الرابطة القائمة بين الفن والواقع من ناحية وبين سعيه للجمالية وعلاقتها بالحقيقة من ناحية أخرى . فهل تكون بذلك موضوعية الجمال الفني منتجة لمقاربة للحقيقة شبيهة بما ينتجه العلم ؟ «تختلف حال التأمل في الفن عنه في العلم ، ففي العلم يحاول المرء أن يكشف عن الطبيعة الأساسية أو الجوهرية للموضوعات ، أما في الفن فان التأمل يحصر اهتمامه ببساطة في الجوانب التي يتجلى من خلالها العمل الفني كموضوع خارجي بالنسبة للحواس ، أي من خلال خصائصه المميزة كاللون والشكل والصوت» ... (17) وهذا يعني أن الحقيقة العلمية تتطابق مع الواقع بينما يتجاوز الفن الضرورة لينتج حقيقته ويسوق هيل مثال نظرتنا للشمس ، فإذا نظرنا إليها من جهة حتميتها ومن جهة حضورها الضروري فان جمالها يختفي ويضيع عنا ولذا يفلت الفن عندها من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية .
هكذا نجد أنفسنا أمام تمثل للفن يتجاوز التناقضات التقليدية ويلم بشمولية الظاهرة دون أن تنحصر في ألم الواقع أو تنساب إلى الخيال اللاواقعي أو تكتفي بالذاتية المقيتة أو الموضوعية المشيئة . فالفن رفض لكل هذا بالرغم من قدرته على استيعاب كل هذا استيعابا روحيا ممتعا جميلا وشاملا ، لذا نجد هيل نفسه يخلص إلى تعريف نهائيا للفن (وهو غير نهائي بأي حال من الأحوال) إذ نعثر عليه في المدخل إلى علم الجمال ص 98 يقول «إذا كنا نريد أن نعزو إلى الفن هدفا نهائيا ، فأنه لا يمكن أن يكون سوى هدف كشف الحقيقة ، وتمثيل ما يجيش في النفس البشرية تمثيلا عينيا ومشخصا . وهذا الهدف مشترك بينه وبين التاريخ ، والدين...» إلا أن هيل يعترف بخطأ هذا الهدف النهائي لأن الفن شيء من التاريخ ولا يفهم إلا ضمن الصيرورة .
المرجعيات المعتمدة :
1 علم الجمال د نايف بلوز مطبعة التعاونية بدمشق 1983 - 1982 ص108 .
2 المدخل إلى علم الجمال هيل ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت ص28 .
3 نفس المرجع نص مترجم للطفي العربي .
(HEGEL ESTHTIQUE . CHAP 14)
5 المدخل إلى علم الجمال هيل ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت.
6 المدخل إلى علم الجمال هيل ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت ص44 .
7 دروس في الجمالية (الفن المعماري).
8 نفس المرجع.
9 علم الجمال د نايف بلوز مطبعة التعاونية بدمشق 1982 1983 ص238 .
10 نفس المرجع.
11 التفضيل الجمالي د شاكر عبد الحميد سلسلة عالم المعرفة العدد 267 ص.105
12 المدخل إلى علم الجمال هيل ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت ص43 .
13 نفس المرجع ص28 .
14 نفس المرجع ص43 .
15 نفس المرجع ص34 .
16 نفس المرجع ص34.
17 التفضيل الجمالي د شاكر عبد الحميد - سلسلة عالم المعرفة العدد 267 ص 109.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.