ربّما لا يعرفه جيل الصحفيين الحاليين ولا جيل القراء... لأنّ حبل الوصل بين الأجيال انقطع فمن يقرأ الأهرام؟ ومن يقرأ مجلّة »صباح الخير« أو »روز اليوسف«؟ أذكر أننا جيل الستينات كنّا مدمنين على الصحافة المصريّة، وتعودّنا على النص والصورة من خلال كتّاب كبار: هيكل، عبر الرحمان الشرقاوي، لطفي الخولي والقائمة طويلة وكذلك على الكاريكاتور من خلال صلاح جاهين في الأهرام، عبد السميع، زهدي، حجازي، بهجوري، رجائي، والليثي... وهم اللذين طوّروا الكاريكاتور العربي... اللباد فنّان مكتمل، بل أكثر الفنانين العرب اكتمالا في الرؤيا وهو فيلسوف البصر والنظر... فقد وصفه الناقد علي الرّاعي ب »ربّ الريشة والقلم«. كنت عرفته في سنوات الجمر العربية آخر الثمانينات عن طريق المناضلين المصريين الشرفاء الذين رفعوا أصواتهم ضدّ »كامب ديفد« بعد زيارة أنور السادات الى اسرائيل فمنهم من راح إلى بيروت وانظم الى الجبهة الفلسطينية ومنهم من رحل الى العراق مثل فؤاد التهامي وصبري موسى وغالب هلسا (الاردني القاهري) ومنهم من تشرد مثل لطفي الخولي وصلاح خميسي. تعرفت على محي الدين اللباد في بيروت عن طريق »منى الصبّان« تلك المرأة الرائعة ذات الضحكة الصاخبة وقد كانت »منتيرة« (مركبة أفلام) متطوعة في مؤسسة السينما الفلسطينية. كان محي الدين اللباد يشارك في مشروع »دار الفتى العربي«.. كان عملاقا... جسديّا حوالي مترين، وعملاقا ابداعيّا... وان أذكر شيئا فذلك الكتاب الصغير الذي أهدتني إيّاه زوجة غسان كنغاني الرائعة »أنّي« تلك المرأة الرائعة وراء مؤسسة »صامد« الراعية للأيتام الفلسطينيين. كتاب تحوّل في ما بعد الى فيلم قصير... هذا الكتاب هزّني رغم حجمه الصغير ضاع مني أيّام التيه في باريس وأحلم ان يطبع في ملايين النسخ ويوزع على أطفال العالم العربي، الكتاب يحتوي على 12 صفحة مقاسه تسع صنتمترات على تسعة صنتمترات وهو يضاهي مئات الكتب التي يحبّرها بعض الكتاب العرب... الكتاب عن نص رائع للقاص السوري زكريا ثامر ورسوم اللباد: يقول النصّ: الدجاجة لها بيت: بيت الدّجاجة اسمه القنّ! الأرنب له بيت: بيت الأرنب يقال له الجحر. الحصان له بيت: بيت الحصان يسمّى الاسطبل بيت السمكة في البحار والانهار القطّ يحب التجوال في الشوارع، لكنه يملك بيتا يحبه ويفخر به، العصفور له بيت: بيت العصفور يدعى العشّ كل انسان له بيت، بيت العصفور يدعى العشّ، كل انسان له بيت البيت هو المكان الذي يمنح الانسان الطمأنينة والسعادة. الفلسطيني لا بيت له. أين بيت الفلسطيني؟! بيت الفلسطيني.. في فلسطين... الفلسطيني لا يحيا اليوم في بيته.. بيت الفلسطيني يحيا فيه عدو الفلسطينيين.. كيف يستعيد الفلسطيني بيته؟ بالسلاح وحده يستعيد الفلسطيني بيته ! محي الدين اللباد هو رسّام وكاتب آل على نفسه ان يغوص في الموروث البصري العربي فهو يستمد مرجعيته من الخط والرسوم الشعبية وخاصة تلك التي ترسم على البيوت وهو كثيرا ما يربط النص بالصورة. كتابه الرّائع »لغة دون كلمات« يشرح العلامات والاشارات المرسومة على الورق والحيطان، نستعمله في دروس علوم الاتصال. والى جانب الرسم والكاريكاتور يلقب في مصر بصانع الكتب، فهو الذي طوّر أغلفة الكتب في مصر فكان الناشرون يهتمون بمحتوى الكتاب، فأغلفة كتبه مثل غلاف »اللجنة« لصنع الله ابراهيم ورواية »ميرال الطحّاوي« »الجبناء«، »دنيازا« لمي التلمساني وغيرها هي أعمال فنيّة. وعندما أسس صفحته في مجلة »صباح الخير« كانت مرجعيته صلبة لتربية الذوق و»تثقيف العين« إذ أطلق على تلك الصفحة عنوان »نظر« وهي كلمة أخذها من قصيدة لبشارة الخوري غنّاها محمد عبد الوهاب. إذا عشقنا فعذرنا ان في وجهنا نظر »محي الدين اللباد« صانع كتب؟ مصمم مجلات وجرائد، مؤلف كبير للاطفال، مصمم غرافيك، ملصقات مسرح وسينما اغلفة كتب... هو كذلك أكبر بيداغوجي بصري عرفته الريشة والكلمة العربية فقد جمع مشروعه نظر في أربعة كتب رائعة (دار الشروق) ومشروعه يلخصه كما يلي... فبعد أن سافر الى المانيا بعد ثورة الطلبة يقول: »من خلال هذا التمرّد أنه يمنحنا »فانتازيا الهدم« ولا يوجد لدينا شيء مستقر أو ناضج فبدأت في اكتشاف الخطّ العربي الذي كان ينظر له »حاجة بتاع مشايخ« وبدأت في بحث واكتشاف تراثنا الفني وأتابع النماذج المحترمة في أوروبا دون تعصب لاننا لابدّ أن نعرف كل شيء في سياقه دون ثنائيات الاصالة والمعاصرة والذات والموضوع، وهكذا تكونت وكأنني أرتدي عمامة صغيرة وبرنيطة في نفس الوقت«. »وهكذا أتت أعماله لتشكل مدرسة غير تقليدية فصولها ورق الصحف والمجلات والكتب وتلاميذها مئات الالاف من القراء من مختلف الطبقات ومستويات التعليم والأعمار عبر مجموعة من الكتب المبهرة شكلا ومضمونا، مجموعة تضمّ (أربعة أجزاء) كشكول الرسام، كلمات، حكايات الكتاب، أصل الحكاية، »تي شارت« و»لغة بلا كلمة«. علّم فيها النّاس، في فصولها غير المسبوقة، كيف يستخدمون حواسهم استخداما جديدا، وكيف ينظرون الى الاشياء عبر منظور بكر طازج، يرى في الاعتيادي الجامد، الجديد المبتكر، ويستخلص من اليومي التقليدي آيات الجمال التائه عن البصيرة المعطّلة والرّؤية الغائمة الكليلة ويستمد من البيت والناس والشجر والمدينة الكالحة الفقيرة، التي تضج بالاصوات والزحام والركام، وسائر العناصر التي تبدو بلا ميزة خاصّة، ملامح مترابطة لاشياء غنيّة مبهرة ان احسسنا بها سنرى الوجود أكثر انسانية وأعمق وأثرى مما يبدو عليه للوهلة الأولى (أحمد بهاء الدين شعبان أخبار الادب). من الطرائف أنّ »محي الدين اللباد« من مواليد حي المغاربة، أي حي المصريين من أصول تونسية وهو كذلك تربطه »بالشعب« صلة طريفة فهو الذي وضع تصميم جريدة الشعب المصرية التي كان يصدرها حزب العمل عندما كان رئيس تحريرها الاستاذ عادل حسين.