بعيدًا عن الصور المركبة التي تتزاحم على شاشات الفضائيات الوطنية والعربية والعالمية. بعيدا عن الأصوات الموجهة عن بعد التي تقطر حروفها لعابا سياسيا طمعا في كعكة الكراسي الشاغرة التي خلفتها فلول العهد الذي شاخ وتقادم وسقط وخلنا أنّه لا يزال جديدا. بعيدا عن حمّى نقاشات لا تنتهي إلا لتفضي إلى مزاريب ومتاهات من الجدل العقيم يفرّ الواحد منّا إلى الشارع... إلى الشارع الرئيسي... حالة من الفوضى الشعبيّة الخلاقة: وجوه، كلمات، شعارات، خطابات... وعيون حالمة وأخرى حائرة وعين كبرى في مكان ما نستشعرها ولا نراها ترقب المشهد بتوثب كبير، قد تكون عين الأخ الأكبر ترقب كل حركة وتسجلها، وقد تكون مجرّد خيالات ترسبت في العقل الباطن منذ أزمنة الرقابة والنظاميّة المقيتة. بعيدا عن كل هذه الهواجس، تحملك قدماك بين أزقة المدينة العتيقة إلى محجّ الثوّار وقبلة المفعمين بوهج الانعتاق.. هناك حيث الصور الحقيقية التي تنطق صدقا يعكس عمق الثورة، والأصوات المبحوحة الحرّة القادمة من الدواخل، والكلمات الحارقة والجمل المقتضية الهاربة من أسر التحزّب وقيود الرقابة.. هناك يتأكد لك أنّك تعيش الثورة وبأنك أحد أبنائها. من المدن المنسيّة القابعة في ظلمة النسيان جاؤوا، زادهم الصدق وضميرهم يهفو لدم الشهداء ودربهم الإصرار والصبر ورسالتهم »سرقتم الاستقلال منّا ولن نترككم تسرقون الثورة«. يفترشون الأرض وتغطيهم أجنحة الشهداء وتدفّئهم قناعة عتّقها التاريخ ووصايا الأجداد: »لا تثقوا بمن خدعكم ولو مرّة واحدة«... هناك بين الخيام رأيت علي بن خليفة وعلي بن عمّار العيّاري والدغباجي وبشير بن سديرة ومصباح الجربوعي ومبروك زغدود ولزهر الشرايطي ومحمد علي الحامي وفرحات حشاد وأحمد التليلي وغيرهم من أبطالنا الذين عبروا إلى أصقاع الذاكرة وتخمّروا ليسكروا أرواح شبابنا اليوم.. شباب ثورة العزّة والكرامة. رأيتهم هناك في القصبة، حيث يصنع التاريخ.. رأيتهم حاضرين في وجوه أبناء الدواخل من قفصة وسيدي بوزيد وبوزيان والحامة ومكثر وجبنيانة وبن قردان وجرجيس والقيروان والمتلوي وتالة والقصرين وغيرها من بؤر النضال الشعبي الأصيل البعيد عن التصنّع والتوظيف والبروباڤاندا الإنتهازية. ولكنّني رأيت ذات العين، العين الكبرى ترقبهم بتوثب وبحسد وبوعيد مكين.